من طرف غذاؤك الإثنين 4 أكتوبر 2021 - 11:12
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
الأصول في النحو
● [ شرح الثاني : وهو المفعول به ] ●
قد تقدّم قولنا في المفعول على الحقيقة أنه المصدر ولما كانت هذه تكون على ضربين : ضرب فيها يلاقي شيئاً ويؤثر فيه
وضرب منه لا يلاقي شيئاً ولا يؤثر فيه فسمي الفعل الملاقي متعدياً وما لا يلاقي غير متعدٍ
فأما الفعل الذي هو غير متعد فهو الذي لم يلاق مصدره مفعولاً نحو : قام وأحمرَ وطالَ
إذا أردت به ضد قصر خاصةً وإن أردتَ بِه معنى علا كان متعدياً والأفعال التي لا تتعدى هي ما كان منها خلقةً أو حركة للجسم في ذاته وهيئةً له أو فعلاً من أفعال النفس غير متشبث بشيء خارج عنها
أما الذي هو خلقة فنحو : أسوَدَ وأحمرَ وأعورَ وأشهابَ وطالَ وما أشبه ذلك
وأما حركة الجسم بغير ملاقاة لشيء آخر فنحو : قامَ وقعدَ وسارَ وغارَ ألا ترى أن هذه الأفعال مصوغة لحركة الجسم وهيئته في ذاته فإن قال قائل : فلا بد لهذه الأفعال من أن تلاقي المكان وأن تكون فيه قيل : هذا لا بدَّ منه لكل فعلٍ والمتعدي وغير المتعدي في هذا سواء وإنما علمنا محيط بأن ذلك كذلك لأن الفعل يصنع ليدل على المكان كما صيغ ليدل على المصدر والزمان
وأما أفعال النفس التي لا تتعداها فنحو : كرُمَ وظَرُفَ وفَكَر وغَضِبَ وخَبرَ وبَطُرَ ومَلُحَ وحَسُنَ وسمحَ وما أشبه ذلك
وأما الفعل الذي يتعدى فكل حركة للجسم كانت ملاقيةً لغيرها وما أشبه ذلك من أفعال النفس وأفعال الحواس من الخمس كلها متعدية ملاقية نحو : نظرت وشممت وسمعت وذقت ولمست وجميع ما كان في معاينهن فهو متعد وكذلك حركة الجسم إذا لاقت شيئاً كان الفعلُ من ذلك متعدياً نحو : أتيتُ زيداً ووطئتُ بلدكَ وداركَ وأما قولك : فارقته وقاطعتهُ وباريتهُ وتاركتهُ فإنما معناه : فعلت كما يفعل وساويت بين الفعلين والمساواة إنما تعلم بالتلاقي وتركتكَ في معنى تاركتكَ لأن كل شيء تركتهُ فقد ترككَ فافهم هذا فإن فيه غموضاً قليلاً
وقد اختلف النحويون في : ( دخلت البيت ) هل هو متعد أو غير متعد وإنما التبس عليهم ذلك لإستعمال العرب له بغير حرف الجر في كثير من المواضع وهو عندي غير متعد كما قدمناه وإنك لما قلت : دخلت إنما عنيت بذلك انتقالك من بسيط الأرض ومنكشفها إلى ما كان منها غير بسيط منكشف فالإنتقال ضربٌ واحدٌ وإن اختلفت المواضع و ( دخلت ) مثل غرتُ إذا أتيت الغور فإن وجب أن يكون ( دخلت ) متعدياً وجبَ أن يتعدى ( غرتُ ) ودليلٌ آخر : أنك لا ترى فعلاً من الأفعال يكون متعدياً إلا كان مضاده متعدياً وإن كان غير متعد كان مضادُهُ غير متعد فَمن ذلك : تحركَ وسكنَ فتحرك غير متعد وسكنَ غير متعد وأبيضَ وأسود كلاهما غير متعد وخرج ضد دخل وخرج غير متعد فواجب أن يكون دخل غير متعد وهذا مذهب سيبويه
قال سيبويه : ومثل : ذهبت الشام دخلت البيت يعني : أنه قد حذف حرف الجر من الكلام وكان الأصل عنده : ذهبت إلى الشام ودخلت في البيت
هما مستعملان بحروف الجر فحذف حرف الجر من حذفه اتساعاً واستخفافاً فإذا قلت : ضربتُ وقتلتُ وأكلتُ وشربت وذكرتُ ونسيتُ وأحيا وأماتَ فهذه الأفعال ونحوها هي المتعدية إلى المفعولين نحو : ضربتُ زيداً وأكلتُ الطعامَ وشربتُ الشراب وذكرتُ الله واشتهيتُ لقاءك وهويتُ زيداً وما أشبه هذا من أفعال النفس المتعدية فهذا حكمه ولا تتمُ هذه الأفعال المتعدية ولا توجد إلا بوجود المفعول لأنك إن قلت : ذكرت ولم يكن مذكور فهو محال وكذلك . اشتهيت وما أشبههُ
واعلم : أن هذا إنما قيل له مفعول به لأنه لما قال القائل : ضَرَبَ وقتل قيل له : هذا الفعل بمنْ وقع فقال : بزيدٍ أو بعمروٍ فهذا إنما يكون في المتعدي نحو ما ذكرنا ولا يقال فيما لا يتعدى نحو : قام وقعد لا يقال هذا القيام بمن وقع ولا هذا القعود بمن حل إنما يقال : متى كان هذا القيام وفي أي وقت وأين كان وفي أي موضع والمكان والزمان لا يخلو فعلٌ منهما متعدياً كان أو غير متعد فمتى وجدتَ فعلاً حقه أن يكون غير متعد بالصفة التي ذكرتُ لك ووجدتَ العرب قد عدتهُ فاعلمْ أن ذلك اتساعٌ في اللغة واستخفاف وأن الأصلَ فيه أن يكون متعدياً بحرف جر وإنما حذفوه استخفافاً نحو ما ذكرت لك من : ذهبت الشام ودخلت البيت وسترى هذا في مواضع من هذا الكتاب
وهذه الأفعال المتعدية تنقسم ثلاثة أقسام : منها ما يتعدى إلى مفعول واحد ومنها ما يتعدى إلى مفعولين ومنها ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل فأما ما يتعدى إلى مفعول واحد فقد ذكرنا منه ما فيه كفاية ونحن نتبعه بما يتعدى إلى مفعولين وإلى ثلاثة بعد ذكرنا مسائل هذا الباب إن شاء الله
[ مسائل من هذا الباب ]
اعلم : أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وذلك لأنها أجناس كمصادرها ألا ترى أنك تقول : بلغني ضربكم زيداً كثيراً وجلوسكم إلى زيد قليلاً كان الضربُ والجلوس قليلاً أو كثيراً وإنما يثنى الفاعل في الفعل فإن قلت فإنك تقول : ضربتكَ ضربتين وعلمتُ علمتين فإنما ذلك لإختلاف النوعين من ضرب يخالف ضرباً في شدته وقلتِه أو علم يخالف علماً كعلمِ الفقهِ وعلمِ النحوِ كما تقولُ : عندي تمور إذا اختلفت الأجناس ومع ذلك فإن الفعل يدل على زمان فلا يجوز أن تثنيه كما ثنيت المصدر وإن اختلفت أنواعه فالفعل لا بد له من الفاعل يليه بعده إما ظاهراً وإما مضمراً ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع لما بينت لك فإذا قلت : الزيدان يقومان فهذه الألف ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع وإذا قلت : الزيدون يقومون فهذه الواو ضمير الجمع والنون علامة الرفع ويجوز : قاموا الزيدون ويقومون الزيدون على لغة من قال : أكلوني البراغيث فهؤلاء إنما يجيئون بالألف والنون وبالواو والنون في : يضربان ويضربون وبالألف والواو في : ضربا وضربوا فيقولون : ضربا الزيدان وضربوا الزيدون ليعلموا أن هذا الفعل لإثنين لا لواحد ولا لجميع ولا لإثنين ولا لواحد كما أدخلت التاء في فِعلِ المؤنثِ لتفصل بين فعل المذكر والمؤنث فكذلك هؤلاء زادوا بياناً ليفرقوا بين فِعْلِ الإِثنين وبين الواحد والجميع وهذا لعمري هو القياس على ما أجمعوا عليه في التاء من قولهم : قامت هند وقعدت سلمى ولكن هذا أدى إلى إلباس إذ كان من كلامهم التقديم والتأخير فكأن السامع إذا سمع قاموا الزيدون لا يدري هل هو خبر مقدم والواو فيه ضمير أم الواو عمل الجمع فقط غير ضمير وكذلك الألف في ( قاما الزيدان ) فلهذا وغيره من العلل ما جمع على التاء ولم يجمع على الألف والواو فجاز في كل فعل لمؤنث تقول : فعلت ولا يحسنُ سقوطها
إلا أن تفرق بين الإسم والفعل فإذا بعُد منه حسن نحو قولهم : حضر اليوم القاضي امرأة
وقال أبو العباس رحمه الله : إن التأنيث معنى لازم غير مفارق إذا لزم المعنى لزمت علامته وليس كذا التثنية والجمع لأنه يجوز أن يفترق الإِثنان والجمع فتخبر عن كل واحد منهما على حياله والتأنيث الحقيقي الذي لا يجوز فعله إلا بعلامة التأنيث هو كل مؤنث له ذكر كالحيوان نحو قولك : قامت أمة الله ونتجت فرسك والناقة إلا أن يضطر شاعر فيجوز له حذف العلامة على قبح فإن كان التأنيث في الإسم ولا معنى تحته فأنت مخير إن شئت جئت بالتاء لتأنيث اللفظ وإن شئت حذفتها
قال الله عز و جل : ( فمن جاءه موعظة من ربه ) ( قالوا ) لأن الموعظة والوعظ سواء
وقال تعالى : ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) لأن الصيحة والصوت واحد أما قوله تعالى : ( وقال نسوة في المدينة ) فإنما جاء على تقدير جماعة فهو تأنيث الجمع ولا واحد لزمه التأنيث فجمع عليه فلو كان تأنيث الواحد للزمه التاء كما تقول : قامت المسلمات لأنه على ( مسلمة ) وتقول : قامت الرجال لأنه تأنيث الجمع
واعلم : أن الفاعل لا يجوز أن يُقدم على الفعل إلا على شرط الإبتداء خاصة وكذلك ما قام مقامه من المفعولين الذين لم يسم من فَعَلَ بهم فأما المفعول إذا كان الفعل متصرفاً فيجوز تقديمُه وتأخيره تقول : ضربت زيداً وزيداً ضربتُ وأكلت خبزاً وخبزاً أكلت وضَرَبَتْ هند عمراً وعمراً ضَرَبَتْ هند وغلامُك أخرج بكراً وبكراً أخرج غلامك وتقول : أشبع الرجلين الرغيفان ويكفي الرجلين الدرهمان وتقول : حرق فاه الخل لأن الخل هو الفاعل وتقول : أعجب ركوبك الدابة زيداً فالكاف في قولك : ( ركوبك ) مخفوضة بالإِضافة وموضعها رفع والتقدير : أعجب زيداً أن رَكِبت الدابة فالمصدر يجر ما أُضيف إليه فاعلاً كان أو مفعولاً ويجري ما بعده على الأصل فإضافته إلى الفاعل أحسن لأنه له كقول الله تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض )
وإضافته إلى المفعول حسنة لأنه به اتصل وفيه حل
تقول : أعجبني بناءُ هذه الدار وما أحسن خياطةَ هذا الثوب فعلى هذا يقول : أعجب ركوبُ الفرس عمرو زيداً أردت : أعجب أن رَكِبَ الفرس عمرو زيداً
فالفرس وعمرو وركب في صلة أن وزيد منتصب ب ( أعجب ) خارج عن لالصلة تقدمه إن شئت قبل ( أعجب ) وإن شئت جعلته بين أعجب والركوب وكذلك : عجبت من دق الثوبِ القصارُ فإن نونت المصدر أو أدخلت فيه ألفاً ولاماً امتنعت إضافته فجرى كل شيء على أصله فقلت : أعجب ركوبٌ زيدٌ الفرس عمراً وإن شئت قلت : أعجب ركوبٌ الفرسَ زيدٌ عمراً ولا يجوز أن تقدم الفرس ولا زيداً قبل الركوب لأنهما من صلته فقد صارا منه كالياء والدال من زيد
وتقول : ما أعجب شيء شيئاً إعجاب زيدٍ ركوبُ الفرسِ عمرو نصبت ( إعجاب ) لأنه مصدر وتقديره : ما أعجب شيء شيئاً إعجابا مثل إعجاب زيد ورفعت الركوب بقولك : أعجب لأن معناه : كما أعجب زيداً أن ركب الفرس عمروٌ
وتقول : أعجب الأكلُ الخبزَ زيدٌ عمراً على ما وصفت لك وعلى ذلك قال الله تعالى : ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ) التقدير : أو أن أُطعم . لقوله وما أدراك
وتقول : أعجب بيعُ طعامِك رخصُه المشتريه فالتقدير : أعجب أن باع طعامك رخصه الرجل المشتريه
فالرخص هو الذي باع الطعام وتقول : أعجبني ضربُ الضارب زيداً عبدَ الله رفعت الضرب لأنه فاعل ب ( أعجبني ) وأضفته إلى الضارب ونصبت زيداً لأنه مفعول في صلة الضارب ونصبت عبد الله بالضرب الأول وفاعله ( الضارب ) المجرور وتقديره : أعجبني أن ضرب الضارب زيداً عبد الله
وتقول : أعجب إعطاءٌ الدراهم أخاك غلامك أباك نصبت أباك ب ( أعجب ) وجعلت غلامك هو الذي أعطى الدراهم أخاك
وتقول : ضَرْبَ الضاربِ عمراً المكرم زيداً أحبَّ أخواك نصبت ضرب الأول ب ( أحب ) وجررت ( الضارب ) بالإِضافة وعديته إلى ( عمرو ) ونصبت المكرم زيداً بضرب الأول فإن أردت أن لا تعديه إلى عمرو قلت : ضرْبَ الضاربِ المكرمَ زيداً أحبَّ أخواك وهذا كله في صلة الضرب لأنك أضفته إلى الضارب وسائر الكلام إلى قولك ( أحب ) متصل به
وتقول : سر دفعك إلى المعطي زيداً ديناراً درهماً القائم في داره عمرو نصبت القائم ( بسر ) ورفعت عمراً بقيامه ولو قلت : سرّ دفعكَ إلى زيدٍ درهماً ضربكَ عمراً كان محالاً لأن الضرب ليس مما يسرُّ ولو قلت : وافق قيامُك قعود زيد صلح ومعناه أنهما اتفقا في وقت واحد ولو أردت ( بوافق ) معنى الموافقة التي هي الإِعجاب لم يصلح إلا في الآدميين
● [ باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ] ●
الفعل الذي يتعدى على مفعولين ينقسم إلى قسمين : فأحدهما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر
والآخر يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فأما الذي يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فقولك : أعطى عبد الله زيداً درهماً وكسا عبد الله بكراً ثوباً فهذا الباب الذي يجوز فيه الإقتصار على المفعول الأول ولا بد أن يكون المفعول الأول فاعلاً فيه في المعنى بالمفعول الثاني ألا ترى أنك إذا قلت : أعطيت زيداً درهماً فزيد المفعول الأول
والمعنى : أنك أعطيته فأخذ الدرهم والدرهم مفعول في المعنى لزيد وكذلك : كسوت زيداً ثوباً المعنى : أنّ زيداً اكتسى الثوب ولبسه
والأفعال التي تتعدى إلى مفعول واحد كلها إذا نقلتها من ( فَعلَ ) إلى ( أفْعَلَ ) كتاب كان من هذا الباب تقول : ضرب زيداً عمراً ثم تقول : أضربت زيداً عمراً أي : جعلت زيداً يضرب عمراً فعمرو في المعنى مفعول لزيد فهذه هي الأفعال التي يجوز لك فيها الإقتصار على المفعول الأول لأن الفائدة واقعة به وحده تقول : أعطيت زيداً ولا تذكر ما أعطيته فيكون كلاماً تاماً مفيداً
وتقول : أضربت زيداً ولا تقول لمن أضربته
واعلم : أن من الأفعال ما يتعدى إلى مفعولين في اللفظ وحقه أن يتعدى إلى الثاني بحرف جر إلا أنهم استعملوا حذف حرف الجر فيه، فيجوز فيه الوجهان في الكلام
فمن ذلك قوله تعالى : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا ) وسميته زيداً وكنيت زيداً أبا عبد الله ألا ترى أنك تقول : اخترت من الرجال وسميته بزيد وكنيته بأبي عبد الله ومن ذلك قول الشاعر :
( أستغفرُ اللَه ذَنْباً لَسْتُ مُحصيهُ ... رَبَّ العبادِ إليهِ الوجهُ والعَملُ )
وقال عمرو بن معد يكرب :
( أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافعَلْ ما أُمِرْتَ بهِ ... فقدْ تركتُكَ ذَا مالٍ وذَا نَشَبِ )
أراد : استغفر الله من ذنب وأمرتك بالخير ومن ذلك : دعوته زيداً إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولاً واحداً فأصل هذا دخول الباء فإذا حذف حرف الجر عمل الفعل ومنه : نبئت زيداً تريد : عن زيد وأنشد سيبويه في حذف حرف الجر قول المتلمس :
( آليتُ حَبَّ العراقِ الدَّهرَ أطعمُهُ ... والحَبُّ يأكلُهُ في القريةِ السُّوسُ )
وقال : تريد على حب العراق . وقد خولف في ذلك
قال أبو العباس : إنما هو : آليت أطعم حب العراق أي : لا أطعم
كما تقول : والله أبرح ها هنا أي : لا أبرح
وخالفه أيضاً في نبَّأْتُ زيداً فقالَ : زيداً معناهُ : أعلمتَ زيداً ونبَّأْتُ زيداً معناه : أعملتُ زيداً
وأعلم : أنه ليس كل فعل يتعدى بحرف جر لك أن تحذف حرف الجر منه وتعدي الفعل إنما هذا يجوز فيما استعملوه وأُخذ سماعاً عنهم ومن ذلك قول الفرزدق :
( مِنَا الَّذي أخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً ... وُجوداً إذا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازعُ )
والقسم الثاني : وهو الذي يتعدى إلى معفولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر هذا الصنف من الأفعال التي تنفذ منك إلى غيرك ولا يكون من الأفعال المؤثرة وإنما هي أفعال تدخل على المبتدأ والخبر فتجعل الخبر يقيناً أو شكاً وذلك قولك : حسب عبد الله زيداً بكراً وظن عمروٌ خالداً أخاك وخال عبد الله زيداً أباك وعلمت زيداً أخاك ومثل ذلك : رأى عبد الله زيداً صاحبنا إذا لم ترد رؤية العين
ووجد عبد الله زيداً ذا الحفاظ إذا لم ترد التي في معنى وجدان الضالة
ألا ترى أنك إذا قلت : ظننت عمراً منطلقاً فإنما شكك في إنطلاق عمرو لا في عمروٍ وكذلك إذا قلت : علمت زيداً قائماً فالمخاطب إنما استفاد قيام زيدٍ لا زيداً لأنه يعرف زيداً كما تعرفه أنت والمخاطبُ والمُخاطِبُ في المفعول الأول سواء وإنما الفائدة في المفعول الثاني كما كان في المبتدأ والخبر الفائدة في الخبر لا في المبتدأ فلما كانت هذه الأفعال إنما تدخل على المبتدأ والخبر والفائدة في الخبر والمفعول الأول هو الذي كان مبتدأ والمفعول الثاني هو الذي كان الخبرَ بقيَ موضعُ الفائدةِ على حالهِ
واعلم : أن كل فعل متعد لك ألاّ تعديه وسواء عليك أكان يتعدى إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين أو إلا ثلاثة لك أن تقول : ضربت ولا تذكر المضروب لتفيد السامع أنه قد كان منك ضرب
وكذلك ظننت يجوز أن تقول : ظننت وعلمت إلى أن تفيد غيرك ذلك
واعلم : أن ظننت وحسبت وعلمت وما كان نحوهن لا يجوز أن يتعدى واحد منها إلى أحد المفعولين دون الآخر لا يجوز : ظننت زيداً وتسكت حتى تقول : ( قائماً ) وما أشبه
من أجل أنه إنما يدخل على المبتدأ والخبر فكما لا يكون المبتدأ بغير خبر كذلك : ( ظننت ) لا تعمل في المفعول الأول بغير مفعول ثانٍ
فأما قولهم : ظننت ذاك فإنما جاز السكوت عليه لأنه كناية عن الظن يعني المصدر فكانه قال : ظننت ذاك الظن ف ( ذاك ) : إشارة إلى المصدر تعمل الظن فيه كما تعمل الأفعال التي لا تتعدى في المصدر إذا قلت : قمت قياماً ويجوز إذا لم تعد : ظننت أن تقول : ظننت به تجعله موضع ظنك كما تقول : نزلت به ويجوز لك أن تلغي الظن إذا توسط الكلام أو تأخر وإن شئت أعملته تقول : زيدٌ ظننت منطلق
وزيدٌ منطلقٌ ظننت فتلغي الظن إذا تأخر ولا يحسن الإِلغاء إلا مؤخراً فإذا ألغيت فكأنك قلت : زيدٌ منطلق في ظني ولا يحسن أن تلغيَهُ إذا تقدم
[ مسائل من هذا الباب ]
تقول : ظننته أخاك قائماً تريد : ظننت الظن فتكون الهاء كناية عن الظن كأنك قلت : ظننت أخاك قائماً الظن ثم كنيتَ عن الظن وأجاز بعضهم : ظننتها أخاك قائماً يريد : الظنة وكذلك إن جعلت الهاء وقتاص أو مكاناً على السعة تقول : ظننت زيداً منطلقاً اليوم ثم تكني عن اليوم فتقول : ظننت زيداً منطلقاً فيه ثم تحذف حرف الجر على السعة فتقول : ظننته زيداً منطلقاً تريد : ظننت فيه والمكان كذلك وإذاولي الظن حروف الإستفهام وجوابات القسم بطل في اللفظ عمله وعمل في الموضع تقول : علمت أزيدٌ في الدار أم عمرو وعلمت إن زيداً لقائم وأخال لعمرو أخوك وأحسب ليقومن زيد ومن النحويين من يجعل ما ولا ك ( أَنْ ) واللام في هذا المعنى فيقول : أظن ما زيد منطلقاً وأحسب لا يقوم زيد لأنه يقول : والله ما زيد محسناً ووالله لا يقوم وزيد
وتقول : ظننته زيدٌ قائمٌ تريد ظننت الأمر والخبر وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول
وتقول ظننته هند قائمة فتذكر لأنك تريد الأمر والخبر وظننته تقوم هند ويجوز في القياس : ظننتها زيد قائم تريد : القصة
ولا أعلمه مسموعاً من العرب
فأما الكوفيون فيجيزون تأنيث المجهول وتذكيره إذا وقع بعده المؤنث يقولون : ظننته هند قائمة وظننتها هند قائمة وتقول : ظننته قائم زيد والهاء كناية عن المجهول
والكوفيون يجيزون إذا ولي هذه الهاء فعل دائم النصب فيقولون : ظننته قائماً زيدٌ ولا أعرف لذلك وجهاً في القياس ولا السماع من العرب وتقول : زيدٌ أظنُّ منطلقٌ فتلغي ( أظنُّ ) كما عرفتك
وتقول : خلفكَ أحسبُ عمروٌ قامَ وقائمٌ أظن زيد فتلغي وإن شئت أَعملت والكوفيون لا يجيزون إذا تقدمه ماضٍ أو مستقبل أن يعملوا
ويحيزون أن يعمل إذا تقدمه اسم أو صفة والإِلغاء عندهم أحسن
قال أبو بكر وذلك عندنا سواء
قال الشاعر :
( أَباالأراجيزِ يا ابْنَ اللُّؤمِ تُوعِدُني ... وفي الأَراجِيزِ خلتُ اللومُ والخورُ )
فألغى : ( خلتُ ) ويلغي المصدر كما يلغي الفعل وتقول : عبد الله ظني قائم وفي ظني وفيما أظن وظناً مني فهذا يلغي وهو نصب تريد : أظن ظناً وإذا قلت : في ظني ( ففي ) من صلة كلامك جعلت ذلك فيما تظن
وحكي عن بعضهم : أنه جعله من صلة خبر عبد الله لأن قيامه فيما يظن وتقول : ظننت زيداً طعامَكَ آكلاً وطعامكَ ظننت زيداً آكلاً
ولا يجوز : ظننت طعامك زيداً آكلاً من حيث قبح : كانت زيداً الحمّى تاخذ وهذه المسألة توافق : كانتْ زيداً الحمى تأخذُ من جهة وتخالفها من جهة أما الجهة التي تخالفها فإن ( كانت ) خالية من الفاعل وظننت معها الفاعل والفعل لا يخلو من الفاعل
والتفريق بينه وبين الفاعل أقبح منه بينه وبين المفعول
والذي يتفقان فيه أن ( كان ) تدخل على مبتدأ وخبر وظننت ما عملا فيه بما لم يعملا فيه
فإن أعملت : ( ظننت ) في مجهول جاز كما جاز في ( كان ) ورفعت زيداً وخبره فقلت : ظننته طعامك زيدٌ آكلٌ ويجوز : ظننته آكل زيد طعام ويجوز في قول الكوفيين نصب آكل
وقد أجاز قوم من النحويين : ظننت عبد الله يقوم وقاعداً وظننت عبد الله قاعداً ويقوم
ترفع ( يقوم ) وأحدهما نسق على الآخر
ولكن إعرابهما مختلف وهو عندي قبيح من أجل عطف الإسم على الفعل والفعل على الإسم لأن العطف أخو التثنية فكما لا يجوز أن ينضم فعل إلى اسم في تثنية كذلك لا يجوز في العطف ألا ترى أنك إذا قلت : زيدان فإنما معناه : زيد وزيد فلو كانت الأسماء على لفظ واحد لاستغني عن العطف وإنما احتيج إلى العطف لإختلاف الأسماء تقول : جاءني زيد وعمرو لما اختلف الإسمان ولو كان اسم كل واحد منهما عمرو لقلت : جاءني العمران فالتثنية نظير العطف ألا ترى أنه يجوز لك أن تقول : جاءني زيد وزيد فحق الكلم التي يعطف بعضها على بعض أن يكون متى اتفقت ألفاظها جاز تثنيتها وما ذكروا جائز في التأويل لمضارعة ( يَفْعَلُ ) لفاعل وهو عندي قبيح لما ذكرت لك
وتقول : ظن ظاناً زيداً أخاك عمرو تريد : ظن عمرو ظاناً زيداً أخاك رفعت عمراً وهو المفعول الأول إذ قام مقام الفاعل ونصبت ( ظاناً ) لأنه المفعول الثاني فبقي على نصبه
ويجوز أن ترفع ظاناً وتنصب عمراً فتقول : ظن ظان زيداً أخاك عمراً كأنك قلت : ظن رجل ظان زيداً أخاك عمراً فترفع ( ظاناً ) بأنه قد قام مقام الفاعل وتنصب زيداً أخاك به وتنصب عمراً لأنه مفعول ( ظن )
وهو خبر ما لم يسم فاعله وتقول : ظن مظنون عمراً زيداً
كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمراً زيداً فترفع ( مظنون ) بأنه قام مقام الفاعل وفيه ضمير رجل والضمير مرتفع ب ( مظنون ) وهو الذي قام مقام الفاعل في مظنون وعمراً منصوب ب ( مظنون ) وزيداً منصوب ب ( ظن )
وتقول : ظن مظنون عمرو أخاه زيداً كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمرو أخاه زيداً و ( مظنون ) في هذا وما أشبهه من النعوت يسميه الكوفيون خلفاً يعنون أنه خلف من اسم
ولا بد من أن يكون فيه راجع إلى الإسم المحذوف
والبصريون يقولون : صفة قامت مقام الموصوف والمعنى واحد فيرفع ( مظنون ) بأنه قام مقام الفاعل وهو ما لم يسم فاعله وترفع عمراً ب ( مظنون ) لأنه قام مقام الفاعل في مظنون
ونصبت أخاه ب ( مظنون ) ورجعت الهاء إلى الإسم الموصوف الذي ( مظنون ) خلف منه ونصبت زيداً ب ( ظن ) فكأنك قلت : ظن رجل زيداً ولو قتل : ظن مظنون عمرو أخاك زيداً لم يجز لأن التأويل : ظن رجل مظنون عمرو أخاك زيداً ف ( مظنون ) صفة لرجل ولا بد من أن يكون في الصفة أو فيما تشبثت به الصفة ما يرجع إلى رجل
وليس في هذه المسألة ما يرجع إلى رجل فمن أجل ذلك لم يجز ويجوز في قول الكوفيين : ظن زيد قائماً أبوه على معنى أن يقوم أبوه
ولا يجيز هذا البصريون لأنه نقض لباب ( ظن ) وما عليه أصول الكلام وإنما يجيز هذا الكوفيون فيما عاد عليه ذكره
وينشدون :
( أظنُّ ابنَ طُرثُوثٍ عُتيبةُ ذَاهِباً ... بعَاديتي تكذابُهُ وجَعائلُه )
● [ باب الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ] ●
اعلم : أن المفعول الأول في هذا الباب هو الذي كان فاعلاً في الباب الذي قبله فنقلته من فَعَلَ إلى ( أفعلَ ) فصار الفاعل مفعولاً وقد بينت هذا فيما تقدم تقول رأى زيد بشراً أخاك فإذا نقلتها إلى ( أفعل ) قلت : أرى الله زيداً بشراً أخاك وأعلم الله زيداً بكراً خير الناس
وقد جاء ( فَعَلْتُ ) في هذا النحو تقول : نبأت زيداً عمراً أبا فلان ولا يجوز الإِلغاء في هذا الباب كما جاز في الباب الذي قبله لأنك إذا قلت : علمت وظننت وما أشبه ذلك فهي أفعال غير واصلة فإذا قلت : ( أعلمت ) كانت واصلة فمن هنا حسن الإِلغاء في ( ظننت وعلمت ) ولم يجز إلغاء : ( علمت ) لأنك إذا ( ظننت ) فإنما هو شيء وقع في نفسك لا شيء فعلتَه
وإذا قلت : ( أعلمت ) فقد أثرت أثراً أوقعته في نفس غيرك
ومع ذلك فإن : ( ظننت وعلمت ) تدخلان على المبتدأ والخبر فإذا ألغينا بقي الكلام تاماً مستغنياً بنفسه تقول : زيداً ظننت منطلقاً فإذا ألغيت : ( ظننت ) بقي زيد ومنطلق فقلت : زيد منطلق ثم تقول ( ظننت ) والكلام مستغن والملغى نظير المحذوف فلا يجوز أن يلغى من الكلام ما إذا حذفته بقي الكلام غير تام ولو ألغيت : ( أعلمت ورأيت ) من قولك : أريت زيداً بكراً خير الناس وأعلمت بشراً خالداً شر الناس والملغى كالمحذوف لبقي زيد بكر خير الناس فزيد بغير خبر والكلام غير مؤتلف ولا تام
واعلم : أن هذه الأفعال المتعدية كلها ما تعدى منها إلى مفعول وما تعدى منها إلى اثنين وما تعدى منها إلى ثلاثة إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين فلم يكن بعد ذلك متعدي تعدت إلى جميع ما يتعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل إلى مفعول من المصدر والظرفين والحال وذلك قولك : أعطى عبد الله زيداً المال إعطاء جميلاً وأعلمت هذا زيداً قائماً العلم اليقين إعلاماً لما انتهت صارت بمنزلة ما لا يتعدى
[ مسائل من هذا الباب ]
تقول : سرقت عبد الله الثوب الليلة فتعدى ( سَرَقْتُ ) إلى ثلاثة مفعولين على أن لا تجعل ( الليلة ) ظرفاً ولكنك تجعلها مفعولاً على السعة في اللغة كما تقول : يا سارق الليلة زيداً الثوب
فتضيف ( سارقاً ) إلى الليلة وإنما تكون الإِضافة إلى الأسماء لا إلى الظروف وكذلك حروف الجر إنما تدخل على الأسماء لا على الظروف فكل منجر بجار عامل فيه فهو اسم وتقول : أعلمت زيداً عمراً هندٌ معجبها هو
كان أصل الكلام : علم زيداً عمراً هند معجبها هو
فزيد مرفوع ب ( عَلَم ) وعمرو منصوب بأنه المفعول الأول وهند مرتفعة بالإبتداء ( ومعجبها ) هو الخبر و ( هو ) هذه كناية عن عمرو وراجعة إليه فلم يجز أن تقول : معجبها ولا تذكر ( هو ) لأن أسماء الفاعلين إذا جرت على غير من هي له لم يكن بد من إظهار الفاعل
وقد بينا هذا فيما تقدم ( وهند ) وخبرها الجملة بأسرها قامت مقام المفعول الثاني وموضعها نصب فإذا نقلت ( علم ) إلى ( أعلمت ) صار زيد مفعولاً فقلت : أعلمت زيداً عمراً هند معجبها هو فإن قيل لك أكن عن ( هند معجبها هو )
قلت : أعلمت زيداً عمراً إياه لأن موضع الخبر نصب
وهذا إذا كنيت عن معنى الجملة لا عن الجملة وتقول : أعلمته زيداً أخاك قائماً تريد : أعلمت العلم فتكون الهاء كناية عن المصدر كما كانت في ( ظننته زيداً أخاك ) فإن جعلت الهاء وقتاً أو مكاناً على السعة جاز كما كان في ( ظننته ) وقد فسرته في باب مسائل ( ظننت )
ومن قال ظننته زيد قائم : فجعل الهاء كناية عن الخبر والأمر وهو الذي يسميه الكوفيون المجهول لم يجز له أن يقول في ( أعلمت زيداً عمراً خير الناس ) أعلمته زيداً عمرو خير الناس لما خبرتك به من أنه يبقى زيد بلا خبر وإنما يجوز ذلك في الفعل الداخل على المبتدأ والخبر فلا يجوز هذا في ( أعلمت ) كما لا يجوز الإِلغاء لأنك تحتاج إلى أن تذكر بعد الهاء خبراً تاما يكون هو بجملته تلك الهاء والأفعال المؤثرة لا يجوز أن يضمر فيها المجهول إنما تذكر المجهول مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر ونحو : كان وظننت وأن وما أشبه ذلك ألا ترى أن تأويل ظننته زيد قائم ظننت الأمر والخبر زيد قائم وكذلك إذا قلت : إنَّه زيد قائم فالتأويل : أن الأمر زيد قائم وكذلك : كان زيد قائم إذا كان فيها مجهول التأويل كان الأمر زيد قائم ولا يجوز أن تقول : أعلمت الأمر ولا أريت الأمر هو ممتنع من جهتين : من جهة أن زيداً يكون بغير خبر يعود إليه ولو زدت في المسألة أيضاً ما يرجع إليه ما جاز من الجهة الثانية
وهي أنه لا يجوز : أعلمت الخبر خبراً إنما يعلم المستخبر وتقول : أعلمت عمراً زيداً ظاناً بكراً أخاك كأنك قلت : أعلمت عمراً زيداً رجلاً ظاناً بكراً أخاك
فإن رددت إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعلم عمرو زيداً ظاناً بكراً أخاك ولك أن تقيم ( زيداً ) مقام الفاعل وتنصب عمراً فتقول : أعلم زيد عمراً ظاناً بكراً أخاك ولا يجوز : أعلم ظان بكراً أخاك عمراً زيداً
من أجل أن حق المفعول الثالث أن يكون هو الثاني في المعنى إذ كان أصله المبتدأ والخبر وقد تقدم تفسير ذلك فإن كان عمرو هو زيد له إسمان جاز وجعلته هو على أن يغني غناه ويقوم مقامه كما تقول : زيد عمرو أي : أن أمره وهو يقوم مقامه جازَ وإلا فالكلام محالٌ لأن عمراً لا يكون زيداً
● [ شرح الثالث : وهو المفعول فيه ] ●
المفعول فيه ينقسم على قسمين : زمان ومكان أما الزمان فإن جميع الأفعال تتعدى إلى كل ضرب منه معرفة كان أو نكرة وذلك أن الأفعال صيغت من المصادر بأقسام الأزمنة كما بينا فيما تقدم فما نصب من أسماء الزمان فانتصابه على أنه ظرف وتعتبره بحرف الظرف أعني
( في ) فيحسن معه فتقول : قمت اليوم وقمت في اليوم فأنت تريد معنى ( في ) وإن لم تذكرها ولذلك سميت إذا نصبت ظروفاً لأنها قامت مقام ( في ) ألا ترى أنك إذا قلت : قمت اليوم ثم قيل لك : أكن عن اليوم قلت : قمت فيه وكذلك : يوم الجمعة ويوم الأحد والليلة وليلة السبت وما أشبه ذلك وكذلك : نكراتها نحو قولك : قمت يوماً وساعة وليلة وعشياً وعشيةً وصباحاً ومساءً
فأما سحر إذا أردت به سحر يومك وغدوة وبكرة هذه الثلاثة الأحرف فإنها لا تتصرف تقول : جئتك اليوم سحر وغدوة وبكرة يا هذا وسنذكرها في موضعها فيما يتصرف وما لا يتصرف إن شاء الله
وكل ما جاز أن يكون جواب ( متى ) فهو زمان ويصلح أن يكون ظرفاً
للفعل يقول القائل : متى قمت فتقول : يوم الجمعة ومتى صمت فتقول : يوم الخميس ومتى قدم فلان فتقول : عام كذا وكذا وكل ما كان جواب متى فالعمل يجوز أن يكون في بعضه وفي كله يقول القائل : متى سرت فتقول : يوم الجمعة فيجوز أن يكون سرت بعض ذلك اليوم ويجوز أن يكون قد سرت اليوم كله ( وكم )
من أجل أنها سؤال عن عدد تقع على كل معدود والأزمنة مما يعد فهي يسأل بها عن عدد الأزمنة فيقول القائل : كم سرت فتقول : ساعة أو يوماً أو يومين ولا يسأل ( بكم ) إلا عن نكرة ( ومتى ) لا يسأل بها إلا عن معرفة أو ما قارب المعرفة يقول القائل : كم سرت فتقول : شهرين أو شهراً أو يوما ولا يجوز أن تقول : الشهر الذي تعلم ولا اليوم الذي تعلم لأن هذا من جواب ( متى )
وأما قولهم : سار الليل والنهار والدهر والأبد فهو وإن كان لفظه لفظ المعارف فهو في جواب ( كم ) ولا يجوز أن يكون جواب ( متى ) لأنه إنما يراد به التكثير وليست بأوقات معلومة محدودة فإذا قالوا : سِيرَ عليه الليل والنهار فكأنهم قالوا : سِيرَ عليه دهراً طويلاً وكذلك الأبد فإنما يراد به التكثير والعدد وإلا فالكلام محال
وذكر سيبويه : أن المحرم وسائر أسماء الشهور أجريت مجرى الدهر والليل والنهار وقال لو قلت : شهر رمضان أو شهر ذي الحجة كان بمنزلة يوم الجمعة أو البارحة ولصار جواب ( متى ) فالمحرم عنده بلا ذكر ( شهر ) يكون في جواب ( كم ) فإن أضفت شهراً إليه صار في جواب ( متى ) وحجته في ذلك استعمال العرب له لذلك قال : وجميع ما ذكرت لك مما يكون مجرى على ( متى ) يكون مجرى على ( كم ) ظرفاً وغير ظرف
وبعض ما يكون في ( كم ) لا يكون في ( متى ) نحو : الدهر والليل والنهار
واعلم : أن أسماء الأزمنة تكون على ضربين : فمنها ما يكون اسماً ويكون ظرفاً ومنها ما لا يكون إلا ظرفاً
فكل اسم من أسماء الزمان فلك أن تجعله اسماً وظرفاً إلا ما خصته العرب بأن جعلته ظرفاً وذلك ما لم تستعمله العرب مجروراً ولا مرفوعاً
وهذا إنما يؤخذ سماعاً عنهم فمن ذلك : ( سحر ) إذا كان معرفة غير مصروف تعني به : سحر يومك لا يكون إلا ظرفاً وإنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر و بالألف واللام أو نكرة وكذلك تحقير سحر إذا عنيت : سحر يومك لم يكن إلا ظرفاً
تقول : سير عليه سحيراً وتصرفه لأن ( فعيلاً ) منصرف حيث كان
ومثله ضحى إذا عنيت : ضحى يومك وصباحاً وعشية وعشاء إذا أردت : عشاء يومك فإنه لم يستعمل إلا ظرفاً وكذلك : ذات مرة وبعيدات بينَ وبكراً وضحوة إذا عنيت ضحوة يومك وعتمة إذا أردت : عتمة ليلتك وذات يوم وذات مرة وليل ونهار إذا أردت : ليل ليلتك ونهار نهارك وذو صباح ظرف
قال سيبيويه : أخبرنا بذلك يونس إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم : ذات ليلة وذات مرة أي جاءتا مرفوعتين فيجوز على هذا أن تنصب نصب المفعول على السعة
واعلم : أن العرب قد أقامت أسماء ليست بأزمنة مقام الأزمنة إتساعاً واختصاراً وهذه الأسماء تجيء على ضربين :
أحدهما : أن يكون أصل الكلام إضافة أسماء الزمان إلى مصدر مضاف فحذف اسم الزمان اتساعاً نحو : جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم وخلافة فلان وصلاة العصر فالمراد في جميع هذا : جئتك وقت مقدم الحاج ووقت خفوق النجم ووقت خلافة فلان ووقت صلاة العصر
والآخر : أن يكون اسم الزمان موصوفاً فحذفا اتساعاً وأُقيم الوصف مقام الموصوف نحو : طويل وحديث وكثير وقليل وقديم وجميع هذه الصفات إذا أقمتها مقام الأحيان لم يجز فيها الرفع ولم تكن إلا ظروفاً وجرت مجرى ما لا يكون إلا ظرفاً من الأزمنة فأما قريب فإن سبيويه أجاز فيه الرفع وقال : لأنهم يقولون : لقيته مذ قريب وكذلك ملى قال : والنصب عندي عربي كثير
فإن قلت : سير عليه طويل من الدهر وشديد من السير فأطلقت الكلام ووصفته كان أحسن وأقوى وجاز
قال أبو بكر : وإنما صار أحسن إذا وصف لأنمه يصير كالأسماء لأن الأسماء هي التي توصف وكل ما كان من أسماء الزمان يجوز أن يكون إسماً وأن يكون ظرفاً فلك أن تنصبه نصب المفعول على السعة تقول : قمت اليوم وقعدت الليلة فتنصبه نصب ( زيد ) إذا قلت : ضربت زيداً ويتبين لك هذا في الكناية أنك إذا قلت : قمت اليوم فتنصبه نصب المفعول على السعة فكنيت عنه قلت : قمته وإذا نصبته نصب الظروف قلت : قمت فيه
وإذا وقع موقع المفعول جاز أن يقوم مقام الفاعل فيما لم يُسَم فاعلُهُ
ألا تراهم قالوا : صِيد عليه يومان وولد له ستون عاماً
[ مسائل من هذا الباب ]
تقول : يوم الجمعة القتال فيه فيوم الجمعة مرفوع بالإبتداء والقتال فيه الخبر والهاء راجعة إلى يوم الجمعة وإذا أضمرته وشغلت الفعل عنه خرج من أن يكون ظرفاً والظروف متى كني وتحدث عنها زال معنى الظرف ويجوز : يوم الجمعة القتال فيه على أن تضمر فعلاً قبل يوم الجمعة يفسره القتال فيه كأنك قلت : القتال يوم الجمعة القتال فيه هذا مذهب سيبويه والبصريين فلك أن تنصبه نصب الظروف ونصب المفعول
وتقول : اليوم الصيام واليوم القتال فترفع الصيام والقتال بالإبتداء واليوم خبر الصيام والقتال واليوم منصوب بفعل محذوف كأنك قلت : الصيام يستقر اليوم أو يكون اليوم وما أشبه ذلك ولا يجوز أن تقول : زيدٌ اليوم ويجوز أن تقول : الليلة الهلال
وقد بينا هذا فيما تقدم عند ذكرنا خبر المبتدأ
وتقول : اليوم الجمعة واليوم السبت لأنه عمل في اليوم فإن جعلته اسم اليوم رفعت
فأما : اليوم الأحد واليوم الإثنان إلى الخميس فحق هذا الرفع لأن هذه كلها أسماء لليوم ولا يكون عملاً فيها وإنما كان ذلك في الجمعة والسبت لأن الجمعة بمعنى الإجتماع والسبت بمعنى الإنقطاع
وتقول : اليومُ رأس الشهر واليومَ رأس الشهر أما النصب فكأنك قلت : اليوم ابتداء الشهر وأما الرفع فكأنك قلت : اليوم أول الشهر فتجعل اليوم هو الأول
وإذا نصبت فالثاني غير الأول
واعلم : أن أسماء الزمان تضاف إلى الجمل وإلى الفعل والفاعل وإلى الإبتداء والخبر تقول : هذا يوم يقوم زيد وأجيئك يوم يخرج الأمير وأخرج يوم عبد الله أمير وتقول : إن يوم عبد الله أمير زيداً جالس تريد : إن زيداً جالس يوم عبد الله أمير فإن جعلت في أول كلامك ( فيه ) قلت : إن يوماً فيه عبد الله خارج زيداً مقيم فتنصب ( زيداً ) ب ( أن ) و ( مقيم ) خبره و ( يوماً ) منتصب بأنه ظرف ل ( مقيم ) و ( فيه عبد الله خارج ) صفة ليوم فإن قلت : إن يوماً فيه عبد الله خارج زيد فيه مقيم خرج اليوم من أن يكون ظرفاً وصار اسماً ل ( أَنَّ ) وإنما أخرجه من أن يكون ظرفاً : أنك جئت ( بفيه ) فأخبرت عنه : بأن إقامة زيد فيه ف ( فيه ) الثانية أخرجته عن أن يكون ظرفاً لأنها شغلت مقيماً عنه ولم تخرجه ( فيه ) الأولى من أن يكون ظرفاً لأنها من صلة الكلام الذي هو صفة ( لليوم ) فالصفة لا تعمل في الموصوف فيكون متى شغلتها خرج الظرف عما هو عليه وإنما دخلت لتفصل بين يوم خرج فيه عبد الله وبين يوم لم يخرج فيه فقولك : يوم الجمعة قمت فيه بمنزلة قولك : زيد مررت به لا فرق فيه الإِخبار عنهما وتقول : ما اليوم خارجاً فيه عبد الله وما يوم خارج فيه عبد الله منطلقاً فيه زيد
وتقول : ما يوماً خارجاً فيه زيد منطلق عمرو فتنصب يوماً بأنك جعلته ظرفاً للإنطلاق ونصبت ( خارجاً ) لأنه صفة لليوم وأما ( منطلق ) فإنما رفعته لأنك قدمت خبر ( ما )
ومن قال : ( يا سَارِقَ اللَّيلةِ أَهْلَ الدَّارِ ... )
فجر ( الليلة ) وجعلها مفعولاً بها على السعة فإنه يقول : أما الليلة فأنت سارقها زيدا وأما اليوم فأنتَ آكله خبزاً وهذان اليومان أنا ظانهما زيداً عاقلاً لأنه قد جعله مفعولاً به على السعة ولا تقول : اليوم أنا معلمه زيداً بشراً منطلقاً لأنه لا يكون فعل يتعدى إلى أربعة مفاعيل فيشبه هذا به وقد أجازه بعض الناس
وتقول على هذا القياس : أما الليلة فكأنها زيدٌ منطلقاً وأما اليوم فليسه زيد منطلقاً وأما الليلة فليس زيد إياها منطلقاً وأما اليوم فكأنه زيد منطلقاً وأما اليوم فكان زيد إياه منطلقاً تريد في جميع هذا : ( في ) فتحذف على السعة ولا تقول : أما اليوم فليته زيداً منطلق تريد : ليت فيه لأن ( ليت ) ليست بفعل ولا هذا موضعَ مفعولٍ فيتسع فيهِ
وجميع هذا مذهب الأخفش
وذكر الأخفش أنه يجوز : أما الليلة فما زيد إياها منطلقاً لأن ( ما ) مشبه بالفعل قال : لم يجوزه في ( ما ) فهو أقيس لأن ( ما ) وإن كانت شبهت بالفعل فليست كالفعل
قال أبو بكر : وهو عندي لا يجوز البتة
وتقول : الليلة أنا أنطلقها
تريد : أنا أن أنطلق فيها
وتقول : الليلة أنا منطلقها تريد : أنا منطلق فيها ولا يجوز : الليلة أنا إياها منطلق ولا : اليوم نحن إياه منطلقون تريد : نحن منطلقون فيه ولا يجوز : أما اليوم فالقتال إياه تريد فيه وأما الليلة فالرحيل إياها تريد : فيها لأن السعة والحذف لا يكونان فيه كما لا سعة فيه ولا حذف في جميع أحواله قال الأخفش : ولو تكلمت به العرب لأجزيناه
كتاب : الأصول في النحو
المؤلف : أبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي
منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة