منتدى غذاؤك دواؤك

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    صيد الخاطر [ 16 ]

    avatar
    غذاؤك
    Admin


    عدد المساهمات : 2100
    تاريخ التسجيل : 12/11/2013

    صيد الخاطر [ 16 ] Empty صيد الخاطر [ 16 ]

    مُساهمة من طرف غذاؤك الثلاثاء 25 يناير 2022 - 20:52

    صيد الخاطر [ 16 ] Eslam_12

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الثقافة الإسلامية
    صيد الخاطر
    صيد الخاطر [ 16 ] 1410
    ● [ فصل ] ●
    أين الأصدقاء

    رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء فبحثت بالتجارب عنهم فإذا أكثرهم حساد على النعم. وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقاً، ولا يواسون من ما لهم صديقاً.
    فتأملت الأمر، فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئاً يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها ليكون أنسه به.
    فينبغي أن يعد الخلق كلهم معارف ليس فيهم صديق، بل تحسبهم أعداء.
    ولا تظهر سرك لمخلوق منهم، ولا تعدن من يصلح لشدة لا ولداً ولا أخاً ولا صديقاً.
    بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة بالتوقي لحظة.
    ثم انفر عنهم وأقبل على شأنك متوكلاً على خالقك.
    فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه.
    فليكن جليسك وأنيسك وموضع توكلك وشكواك.
    فإن ضعف بصرك فاستغث به، وإن قل يقينك فسله القوة.
    وإياك أن تميل إلى غيره، فإنه غيور، وإن تشكو من أقداره، فربما غضب ولم يعتب.
    أوحى الله عز وجل إلى يوسف عليه السلام: من خلصك من الجب ؟ من فعل ؟ من فعل ؟ قال: أنت.
    قال: فلم ذكرت غيري ؟ فلا أطيلن حبسك أو كما قال.
    هذا وإنما تعرض يوسف عليه السلام بسبب مباح: " اذكرني عند ربك " " ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم " .
    وما أعرف العيش إلا لمن يعرفه - جل شأنه - ويعيش معه ويتأدب بين يديه في حركاته وكلماته كأنه يراه.
    ويقف على باب طرفه حارساً من نظرة لا تصلح، وعلى باب لسانه حافظاً له من كلمة لا تحسن، وعلى باب قلبه حماية لمسكنه من دخول الأغيار.
    ويستوحش من الخلق شغلاً به، وهذا يكون على سيرة الروحانيين.
    فأما المخلط فالكدر غالب عليه، والمحق لا يطلب إلا الأرفع قال القائل:
    ألا لا أحب السير إلاّ مصاعداً ... ولا البرق إلاّ أن يكون يمانياً
    ● [ فصل ] ●
    علماء السوء
    رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده.
    فالقارىء مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم؛ ولا زجر القرآن ووعده.
    وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ.
    والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجو بذلك السلامة.
    وربما ترخص في الخطايا ظناً منه أن ما فعل في خدمة الشريعة يدفع عنه.
    والفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه، أو المسائل، أو المسائل التي قد عرف فيها المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره، ويمحو ذنبه.
    فربما هجم على الخطايا ظناً منه أن ذلك يدفع عنه.
    وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث، وأنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق.
    وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه.
    وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر والحماقة.
    وقد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به.
    وكانت حاله تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه ولا يبقى له أثر.
    وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف ولا ندم على ذنب.
    قال فتغير في آخر عمره ولازمه الفقر، فكان يلقى الشدائد ولا ينتهي عن قبح حاله. إلى أن جمعت له يوماً قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك وقال: يا رب إلى هذا الحد ؟.
    قال الحاكي: فتعجبت من غفلته كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له والصيانة وسعة الرزق، وكأنه ما سمع قوله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً " .
    ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله.
    فما رأيت علماً ما أفاد كعلم هذا، لأن العالم إذا زل انكسر، وهذا مصر لا تؤلمه معصيته.
    وكأنه يجوز له ما يفعل، أو كأن له التصرف في الدين تحليلاً وتحريماً.
    فمرض عاجلاً ومات على أقبح حال.
    قال الحاكي: ورأيت شيخاً آخر حصل صور علم فما أفادته.
    كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه، وأي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالاعتراض على المقدر واللوم.
    فعاش أكدر عيش، وعلى أقبح اعتقاد حتى درج.
    وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم.
    نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود، وتعرفنا المعبود.
    ونعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء، لا ينهاهم ما يحملون، ويعلمون، ولا يعملون، ويتكبرون على الناس بما لا يعملون.
    ويأخذون عرض الأدنى وقد نهوا عما يأخذون.
    غلبتهم طباعهم، وما راضتهم علومهم، التي يدرسون.
    فهم أخس حالاً من العوام الذين يجهلون " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " .
    ● [ فصل ] ●
    القدرة على الحياة
    ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول، وقد سمعنا ورأينا جماعة من الفطناء الكاملي العقل لعبت بهم الدنيا حتى صاروا كالمجانين. فولوا الولايات فخرجوا إلى القتل والضرب والحبس والشتم وذهاب الدين، والمباشرة للظلم وذلك كله لأجل دنيا تذهب سريعاً.
    وفي مدة إقامتها هي معجونة بالنغص.
    فيا أيها المرزوق عقلاً لا تبخسه حقه، ولا تطفيء نوره، واسمع ما نشير به، ولا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه.
    فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغ جاهلاً فقيراً:
    لا تسه عن أدب الصغي ... ر ولو شكا ألم التعب
    ودع الكبير لشأنه ... كبر الكبير عن الأدب
    وعلم أن زمان الابتلاء ضيف قراه الصبر، كما قال أحمد بن حنبل: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق المعاش، وعلل الناقة بالحدو تسير:
    طاول بها الليل مال النجم أم جنحا ... وما طل النوم ضن الجفن أم سمحا
    فإن تشكت فعللها المجرة من ... ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
    وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية فردها، ثم قال بعد سنة لأولاده: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.
    ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال البئر الأخرى فمر عليها فقال له الأخرى، ثم قال: كذا تقطع الدنيا.
    ودخلوا إلى بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له ألا بذا تؤذي ؟ فقال هذا أمر ينقضي.
    وكان لداود الطائي دار يأوي إليها، فوقع سقف فانتقل إلى سقف إلى أن مات في الدهليز.
    فهؤلاء الذين نظروا في عواقب الأمور، وبعد هذا فلا أطالبك بهذه الرتبة، بل أقول لك: إن حصل لك شيء من المباح لا من فيه ولا أذى ولا نلته بسؤال ولا من يد ظالم تعلم أن ماله حرام أو فيه شبهة، فافسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه، وكن مقدراً للنفقة غير مبذر.
    فإن الحلال لا يحتمل السرف ومتى أسرفت احتجت إلى التعرض للخلق والتناول من الأكدار.
    وإن ضاق بك أمر فاصبر، فإن ضعف الصبر فسل فاتح الأبواب.
    فهو الكريم وعنده مفاتح الغيب.
    وإياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق أو بتقرب إلى الأمراء تستعطي أموالهم.
    واذكر طريق السلف، كان ابن سمعون له ثياب يجلس فيها للناس ثم يطويها إلى المجلس الآخر ورثها عن أبيه بقيت أربعين سنة.
    وكانت ميمونة بنت شاقولة تعظ الناس ولها ثياب قد بقيت أربعين سنة.
    ومن صفا نظره وتهذب لفظه، نفع وعظه، ومن كدر كدر عليه.
    والحالة العالية في هذا إقبال القلب على الله عز وجل، والتوكل عليه والنظر إليه والتفات القلب عن الخلق.
    فإن احتجت فاسأله، وإن ضعفت فارغب إليه.
    ومتى ساكنت الأسباب انقطعت عنه، ومتى استقام باطنك استقامت لك الأمور.
    ● [ فصل ] ●
    أين الأصدقاء
    رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء فبحثت بالتجارب عنهم فإذا أكثرهم حساد على النعم. وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقاً، ولا يواسون من ما لهم صديقاً.
    فتأملت الأمر، فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئاً يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها ليكون أنسه به.
    فينبغي أن يعد الخلق كلهم معارف ليس فيهم صديق، بل تحسبهم أعداء.
    ولا تظهر سرك لمخلوق منهم، ولا تعدن من يصلح لشدة لا ولداً ولا أخاً ولا صديقاً.
    بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة بالتوقي لحظة.
    ثم انفر عنهم وأقبل على شأنك متوكلاً على خالقك.
    فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه.
    فليكن جليسك وأنيسك وموضع توكلك وشكواك.
    فإن ضعف بصرك فاستغث به، وإن قل يقينك فسله القوة.
    وإياك أن تميل إلى غيره، فإنه غيور، وإن تشكو من أقداره، فربما غضب ولم يعتب.
    أوحى الله عز وجل إلى يوسف عليه السلام: من خلصك من الجب ؟ من فعل ؟ من فعل ؟ قال: أنت.
    قال: فلم ذكرت غيري ؟ فلا أطيلن حبسك أو كما قال.
    هذا وإنما تعرض يوسف عليه السلام بسبب مباح: " اذكرني عند ربك " " ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم " .
    وما أعرف العيش إلا لمن يعرفه - جل شأنه - ويعيش معه ويتأدب بين يديه في حركاته وكلماته كأنه يراه.
    ويقف على باب طرفه حارساً من نظرة لا تصلح، وعلى باب لسانه حافظاً له من كلمة لا تحسن، وعلى باب قلبه حماية لمسكنه من دخول الأغيار.
    ويستوحش من الخلق شغلاً به، وهذا يكون على سيرة الروحانيين.
    فأما المخلط فالكدر غالب عليه، والمحق لا يطلب إلا الأرفع قال القائل:
    ألا لا أحب السير إلاّ مصاعداً ... ولا البرق إلاّ أن يكون يمانياً
    ● [ فصل ] ●
    علماء السوء
    رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده.
    فالقارىء مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم؛ ولا زجر القرآن ووعده.
    وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ.
    والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجو بذلك السلامة.
    وربما ترخص في الخطايا ظناً منه أن ما فعل في خدمة الشريعة يدفع عنه.
    والفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه، أو المسائل، أو المسائل التي قد عرف فيها المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره، ويمحو ذنبه.
    فربما هجم على الخطايا ظناً منه أن ذلك يدفع عنه.
    وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث، وأنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق.
    وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه.
    وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر والحماقة.
    وقد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به.
    وكانت حاله تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه ولا يبقى له أثر.
    وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف ولا ندم على ذنب.
    قال فتغير في آخر عمره ولازمه الفقر، فكان يلقى الشدائد ولا ينتهي عن قبح حاله. إلى أن جمعت له يوماً قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك وقال: يا رب إلى هذا الحد ؟.
    قال الحاكي: فتعجبت من غفلته كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له والصيانة وسعة الرزق، وكأنه ما سمع قوله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً " .
    ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله.
    فما رأيت علماً ما أفاد كعلم هذا، لأن العالم إذا زل انكسر، وهذا مصر لا تؤلمه معصيته.
    وكأنه يجوز له ما يفعل، أو كأن له التصرف في الدين تحليلاً وتحريماً.
    فمرض عاجلاً ومات على أقبح حال.
    قال الحاكي: ورأيت شيخاً آخر حصل صور علم فما أفادته.
    كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه، وأي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالاعتراض على المقدر واللوم.
    فعاش أكدر عيش، وعلى أقبح اعتقاد حتى درج.
    وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم.
    نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود، وتعرفنا المعبود.
    ونعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء، لا ينهاهم ما يحملون، ويعلمون، ولا يعملون، ويتكبرون على الناس بما لا يعملون.
    ويأخذون عرض الأدنى وقد نهوا عما يأخذون.
    غلبتهم طباعهم، وما راضتهم علومهم، التي يدرسون.
    فهم أخس حالاً من العوام الذين يجهلون " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " .
    ● [ فصل ] ●
    الحرص على الثقافة
    للفقيه أن يطالع من كل فن طرفاً، من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقه يجتاح إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهماً.
    ولقد رأيت بعض الفقهاء يقول: اجتمع الشبلي وشريك القاضي فاستعجبت له كيف لا يدري بعد ما بينهما.
    وقال آخر في مناظرة: كانت الزوجية بين فاطمة وعلي رضي الله عنهما غير منقطعة الحكم، فلهذا غسلها.
    فقلت له: ويحك فقد تزوج أمامة بنت زينب، وهي ابنة أختها فانقطع.
    ورأيت في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي من هذا ما يدهش من التخليط في الأحاديث والتواريخ، فجمعت من أغاليطه في كتاب.
    وقد ذكر في كتاب له سماه المستظهري وعرضه على المستظهر بالله: أن سليمان بن عبد الملك بعث إلى أبي حازم فقال له: ابعث لي من فطورك، فبعث إليه نخالة مقلوة فأفطر عليها، ثم جامع زوجته فجاءت بعبد العزيز، ثم ولد له عمر.
    وهذا تخليط قبيح، فإنه جعل عمر بن عبد العزيز بن سليمان بن عبد الملك، فجعل سليمان جده، وإنما هو ابن عمه.
    وقد ذكر أبو المعالي الجويني في أواخر كتاب الشامل في الأصول، قال: قد ذكرت طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج والجبائي القرمطي وابن المقفع تواصل على قلب الدول وإفساد المملكة واستعطاف القلوب وارتياد كل منهم قطراً، فقطن الجبائي في الأحسا، وتوغل ابن المقفع في أطراف بلاد الترك، وقطن الحلاج ببغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن بلوغ الأمنية لبعد أهل بغداد عن الانخداع، وتوفر فطنتهم وصدق فراستهم.
    قلت: ولو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ لعلم أن الحلاج لم يدرك ابن المقفع، فإن ابن المقفع أمر بقتله المنصور، فقتل في سنة أربع وأربعين ومائة.
    وأبو سعيد الجبائي القرمطي ظهر إلى سنة ست وثمانين ومائتين.
    والحلاج قتل سنة تسع وثلاثمائة.
    فزمان القرمطي والحلاج متقاربان؛ فأما ابن المقفع فكلا.
    فينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم، فيطالع منها طرفاً؛ إذ لكل علم بعلم تعلق.
    وأقبح بمحدث يسأل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله منها جمع طرق الأحاديث.
    وقبيح بالفقيه أن يقال له: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؛ فلا يدري صحة الحديث ولا معناه.
    نسأل الله عز وجل همة عالية لا ترضى بالنقائص بمنه ولطفه.
    ● [ فصل ] ●
    همة العالم
    كانت همم القدماء من العلماء علية، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم.
    ألا إن أكثر تصانيفهم دثرت، لأن همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات، ولا ينشطون للمطولات.
    ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فدثرت الكتب ولم تنسخ.
    فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة.
    وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي، ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد.
    فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانفيهم، وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال:
    فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلّي أرى الديار بسمعي
    وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز.
    ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن محمد بن الخشاب وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه.
    ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب.
    فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع.
    فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد.
    ● [ فصل ] ●
    الكفر حماقة
    ليس للآدمي أعز من نفسه، وقد عجبت ممن يخاطر بها ويعرضها للهلاك.
    والسبب في ذلك قلة العقل وسوء النظر؛ فمنهم من يعرضها للتلف ليمدح بزعمه.
    مثل قوم يخرجون إلى قتل السبع، ومنهم من يصعد إلى إيوان كسرى ليقال شاطر، وساع يمشي ثلاثين فرسخاً، وهؤلاء إذا تلفوا حملوا إلى النار.
    فإن هلك ذهبت النفس التي يراد المال لأجلها.
    وأعجب من الكل من يخاطر بنفسه في الهلاك ولا يدري، مثل أن يغضب فيقتل المسلم فيشفى غيظه بالتعذيب في جهنم.
    وأظرف من هذا اليهود والنصارى، فإن أحدهم يبلغ فيجب عليه أن ينظر في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم فإذ فرط فمات فله الخلود في جهنم.
    ولقد قلت لبعضهم: ويحك تخاطر بنفسك في عذاب الأبد، نحن نؤمن بنبيكم فنقول: لو أن مسلماً آمن بنبينا وكذب بنبيكم أو بالتوراة خلد في النار فما بيننا وبينكم خلاف. إذ نحن مؤمنون بصدقه وكتابه، فلو لقيناه لم نخجل ولو عاتبنا مثلاً وقال: هل قمتم بالسبت والسبت من الفروع والفروع لا يعاقب عليها بالخلود.
    فقال لي رئيس القوم: ما نطالبكم بهذا لأن السبت إنما يلزم بني إسرائيل.
    فقلت: فقد سلمنا بإجماعكم وأنتم هالكون، لأنكم تخاطرون بأرواحكم في العذاب الدائم.
    والعجب بمن يهمل النظر فيما إذا توانى فيه أوجب الخلود في العقاب الدائم.
    وأعجب من الكل جاحد الخالق وهو يرى أحكام الصنعة ويقول لا صانع.
    والسبب في هذه الأشياء كلها قلة العقل وترك إعماله في النظر والاستدلال.
    ● [ فصل ] ●
    كتمان السر
    لا ينبغي للعاقل أن يظهر سراً حتى يعلم أنه إذا ظهر لا يتأذى بظهوره.
    ومعلوم أن السبب في بث السر طلب الاستراحة ببثه، وذلك ألم قريب فليصبر عليه.
    فرب مظهر سراً لزوجته فإذا طلقت بثته، وهلك.
    أو لصديقه فيظهر عليه حسداً له إذا كان مماثلاً وإن كان عامياً فالعامي أحمق.
    ورب سر أظهر فكان سبب الهلاك.
    ● [ فصل ] ●
    تكاليف المجد
    ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق العلم. والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره.
    ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب، ومذ فقد التفقد لهم من الأمراء ومن الإخوان انقطعوا فلازمهم الفقر ضرورة.
    والفضائل تنادي " هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً " .
    فكلما خافت من ابتلى قالت:
    لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
    ولما آثر أحمد بن حنبل رضي الله عنه طلب العلم وكان فقيراً، بقي أربعين سنة يتشاغل به ولا يتزوج، فينبغي للغير أن يصابر فقره كما فعل أحمد..
    ومن يطيق ما أطاق ؟ فقد رد من المال خمسين ألفاً وكان يأكل الكامخ ويتأدم بالملح.
    فما شاع له الذكر الجميل جزافاً، ولا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب.
    فيا له ثناء ملأ الآفاق، وجمالاً زين الوجود، وعزا نسخ كل ذل.
    هذا في العاجل، وثواب الآجل لا يوصف.
    وتلمح قبور أكثر العلماء لا تعرف ولا تزار. ترخصوا وتأولوا وخالطوا السلاطين فذهبت بركة العلم ومحى الجاه ووردوا عند الموت حياض الندم.
    فيا لها حسرات لا تتلافى، وخسراناً لا ينجبر، وكانت صحبة اللذات طرفة عين ولازم الأسف دائماً.
    فالصبر الصبر أيها الطالب للفضائل، فإن لذة الراحة بالهوى أو بالبطالة تذهب ويبقى الأسى، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه:
    يا نفس ما هو إلاّ صبر أيام ... كأن مدتها أضغاث أحلام
    يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة ... وخل عنها فإن العيش قدامي
    ثم أيها العالم الفقير، أيسرك ملك سلطان من السلاطين ؟ وأن ما تعلمه من العلم لا تعلمه ؟.
    كلا، ما أظن بالمتيقظ أن يؤثر هذا.
    ثم أنت إذا وقع لك خاطر مستحسن أو معنى عجيب تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية.
    فقد حرم من رزق الشهوات ما قد رزقت، وقد شاركتهم في قوام العيش، ولم يبق إلا الفضول الذي إذا أخذ لم يكد يضر.
    ثم هم على المخاطرة في باب الآخرة غالباً، وأنت على السلامة في الأغلب.
    فتلمح يا أخي عواقب الأحوال، واقمع الكسل المثبط عن الفضائل.
    فإن كثيراً من العلماء الذين ماتوا مفرطين يتقلبون في حسرات وأسف.
    رأى رجل شيخنا ابن الزغواني في المنام، فقال له الشيخ: أكثر ما عندكم الغفلة وأكثر ما عندنا الندامة.
    فاهرب وفقك الله قبل الحبس، وافسخ عقد الهوى على الغبن الفاحش.
    واعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا، وأن يسير التفريط يشين وجه المحاسن.
    فالبدار البدار ونفس النفس يتردد، وملك الموت غائب ما قدم بعد، وانهض بعزيمة عازم:
    إذا همّ ألقى بين عيينة عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
    وإذا يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا
    وارفض في هذه العزيمة الدنيا وأربابها، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم، فنحن الأغنياء، وهم الفقراء.
    كما قال إبراهيم بن أدهم: ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
    فأبناء الدنيا أحدهم لا يكاد يأكل لقمة إلا حراماً أو شبهة.
    وهو وإن لم يؤثر ذلك فوكيله يفعله، ولا يبالي هو بقلة دين وكيله.
    وإن عمروا داراً سخروا الفعلة، وإن جمعوا مالاً فمن وجوه لا تصلح.
    ثم كل منهم خائف أن يقتل أو يعزل أو يشتم، فعيبهم نقص.
    ونحن نأكل ما ظاهر الشرع يشهد له بالإباحة، ولا نخاف من عدو، ولا ولايتنا تقبل العزل.
    والعز في الدنيا لنا لا لهم، وإقبال الخلق علينا، وتقبيل أيدينا وتعظيمنا عندهم كثير.
    وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى.
    فإن لفت أرباب الدنيا أعناقهم يعلمون قدر مزيتنا.
    وإن غلت أيديهم عن إعطائنا فلذة العفاف أطيب، ومرارة المنن لا تفي بالمأخوذ: وإنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل.
    والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم إذ لا يطلبه ذو نفس شريفة كيف يذل لبذل من لا عزه إلا بالدنانير، ولا مفخرة له إلا بالمكنة، ولقد أنشدني أبو يعلى العلوي:
    ربّ قوم في خلائهم ... عرر قد صيروا غررا
    ستر المال القبيح لهمسترى إن زال ما سترا
    أيقظنا الله من رقدة الغافلين، ورزقنا فكر المتيقظين.
    ووفقنا للعمل بمقتضى العلم والعقل، إنه قريب مجيب.
    ● [ فصل ] ●
    الرفق بالبدن
    لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق، فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب.
    فترى في الناس من يتزهد وقد ربى جسده على الترف فيعرض عما ألفه فتتجدد له الأمراض، فتقطعه عن كثير من العبادات.
    وقد قيل: عودوا كل بدن ما اعتاد، وقد قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضب فقال: أجدني أعافه لأنه ليس بأرض قومي.
    وفي حديث الهجرة: أن أبا بكر رضي الله عنه طلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الظل وفرش له فروة وصب على القدح الذي فيه اللبن ماء حتى برد.
    وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم فقال: إن كان عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا.
    وكان صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج، وفي الصحيح: أنه كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا لم يقدر أكل ما حضر.
    ولعمري إن في العرب وأهل السواد من لا يؤثر عنده التخشن في المطعم والملبس، وذاك إذا جرى بعد نوبته على عادته لم يستضر، فأما من قد ألف اللطف فإنه إذا غير حالته تغير بدنه وقلت عبادته.
    وقد كان الحسن يديم أكل اللهم ويقول، لا رغيفي مالك ولا صحني فرقد.
    وكان ابن سيرين لا يخلي منزله من حلوى.
    وكان سفيان الثوري يسافر وفي سفرته الحمل المشوي، والفالوذج.
    وقالت رابعة: ما أرى البدن يراد به العمل لله إذا أكل الفالوذج عيباً.
    فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه.
    وقد عرفت هذا من نفسي، فإني ربيت في ترف فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى، أثر معي مرضاً قطعني عن كثير من التعبد.
    حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن، فتناولت يوماً ما لا يصلح فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها.
    قلت: إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات، إن تناولها لطاعة عظيمة.
    وإن مطعماً يؤذي البدن فيفوته فعل خير ينبغي أن يهجر.
    وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه حضر عنده وقد تغير من التقشف فقال له: من أمرك بهذا !.
    فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه كما ينقي الغازي شعير الدابة.
    ولا تظنن أني آمر بأكل الشهوات، ولا بالإكثار من الملذوذ، إنما آر بتناول ما يحفظ النفس، وأنهي عما يؤذي البدن.
    فأما التوسع في المطاعم، فإنه سبب النوم، والشبع يعمي القلب، ويهزل البدن ويضعفه. فافهم ما أشرت إليه، فالطريق هي الوسطى.
    ● [ فصل ] ●
    غفلات المعصية
    إذا تكامل العقل قوي الذكاء والفطنة.
    والذكي يتخلص إذا وقع في آفة كما قال الحسن: إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع، فأما المغفل فيجني على نفسه المحن.
    هؤلاء إخوة يوسف عليهم السلام، أبعدوه عن أبيه ليتقدموا عنده، وما علموا أن حزنه عليه يشغله عنهم وتهمته إياهم تبغضهم إليه، ثم رموه في الجب فقالوا: " يلتقطه بعض السيارة " وليس بطفل إنما هو صبي كبير.
    وما علموا أنه إذا التقط يحدث بحاله، فيبلغ الخبر إلى أبيه وهذا تغفيل.
    ثم إنهم قالوا: أكله الذئب، وجاءوا بقميصه صحيحاً، ولو خرقوه احتمل الأمر.
    ثم لما مضوا إليه يتمارون قال: " ائتوني بِأخٍ لكم " فلو فطنوا علموا أن ملك مصر لا غرض له في أخيهم.
    ثم حبسه بحجة، ثم قال: هذا الصواع يخبرني أنه كان كذا وكذا، هذا كله وما يفطنون.
    فلما أحس بهذه الأشياء يعقوب عليه السلام قال: " اذهبوا فتحسسوا من يوسف " وكان يوسف عليه السلام قد نهي بالوحي أن يعلم أياه بوجوده.
    ولهذا لما التقيا قال له: هلا كتبت إلي فقال: إن جبريل عليه السلام منعني.
    فلما نهى أن يعرفه خبره لينفذ البلاء كان ما فعل بأخيه تنبيهاً، فصار كأنه يعرض بخطبة المعتدة.
    وعلى فهم يوسف والله بكى يعقوب لا على مجرد صورته.
    ● [ فصل ] ●
    الصبر والعفة
    الآدمي موضوع على مطلوبات تشتت الهم، العين تطلب المنظور، واللسان يطلب الكلام، والبطن يطلب المأكول، والفرج المنكوح، والطبع يحب جمع المال.
    وقد أمرنا بجمع الهم لذكر الآخرة والهوى يشتته.
    فكيف إذا اجتمعت إليه حاجات لازمة من طلب قوت البدن وقوت العيال.
    وهذا يبكر إلى دكانه ويفتكر في التحصيل، ويستعمل آلة الفهم في نيل ما لا بد منه.
    فأي هم يجتمع منه خصوصاً إن أخذه الشره في صورة فيمضي العمر، فينهض الدكان إلى القبر.
    فكيف يحصل العلم أو العمل أو إخلاص القصد أو طلب الفضائل.
    فمن رزق يقظة، فينبغي أن يصابر لنيل الفضائل.
    فإن كان متزهداً بغير عائلة اكتفى بسعي قليل فقد كان السبتي يعمل يوم السبت فيكتفي به طول الأسبوع.
    فإن كان له مال باضع به من يكفيه بدينه، وثقته من أن يهتم هو.
    وإن كان له عائلة جمع همه في نية الكسب عليهم فيكون متعبداً.
    أو أن يكون قنية مال كعقار ناصفة في نفقته ليكفيه دخله.
    وليقلل الهم على مقدار ما يمكنه من حذف العلائق جهده ليجمع الهم في ذكر الآخرة.
    فإن لم يفعل أخذ في غفلته وندم في حفرته.
    وأقبح الأحوال حال عالم فقيه كلما جمع همه لذكر الآخرة شتته طلب القوت للعائلة.
    وربما احتاج إلى التعرض للظلمة وأخذ الشبهات وبذل الوجه، فيلزم هذا التقدير في النفقة.
    وإذا حصل له شيء من وجه دبر فيه.
    ولا ينبغي أن يحمله قصر الأمل على إخراج ما في يده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركها عالة يتكففون الناس.
    وأذل من كل ذل التعرض للبخلاء والأمراء.
    فليدبر أمره، ويقلل العلائق، ويحفظ جاهه، فالأيام قلائل.
    وقد بعث إلى أحمد بن حنبل مال فسأله ابنه قبوله فقال: يا صالح صني، ثم قال أستخير الله، فأصبح فقال: يا بني قد عزم لي أن لا أقبله.
    هذا وكان العطاء هنياً، وجاءه من وجوه. فانعكس الأمر اليوم.
    ● [ فصل ] ●
    السياسة في المعاملة
    العزلة عن الخلق سبب طيب العيش.
    ولا بد من مخالطة بمقدار، فدار العدو واستحله، فربما كادك فأهلكك.
    وأحسن إلى من أساء إليك، واستعن على أمورك بالكتمان، ولتكن الناس عندك معارف، فأما أصدقاء فلا.
    لأن أعز الأشياء وجود صديق، ذاك أن الصديق ينبغي أن يكون في مرتبة مماثل.
    فإن صادفته عامياً لم تنتفع به لسوء أخلاقه وقلة علمه وأدبه، وإن صادفت مماثلاً أو مقارباً حسدك.
    وإذا كان لك يقظة تلمحت من أفعاله وأقواله ما يدل على حسدك: " ولتعرفنّهم في لحن القول " .
    وإذا أردت تأكيد ذلك فضع عليه من يضعك عنده، فلا يخرج إليه إلا بما في قلبه.
    فإن أردت العيش فابعد عن الحسود لأنه يرى نعمتك فربما أصابها بالعين.
    فإن اضطررت إلى مخالطته فلا تفش إليه سرك ولا تشاوره، ولا يغرنك تملقه لك، ولا ما يظهره من الدين والتعبد، فإن الحسد يغلب الدين.
    وقد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل. وأن إخوة يوسف باعوه بثمن بخس.
    وكان أبو عامر الراهب من المتعبدين العقلاء، وعبد الله بن أبي من الرؤساء، أخرجهما حسد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفاق وترك الصواب.
    ولا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما هو فيه، فإنه في أمر عظيم متصل لا يرضيه إلا زوال نعمتك.
    وكلما امتدت امتد عذابه، فلا عيش له، وما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد والغل من صدورهم.
    ولولا أنه نزع تحاسدوا وتنغص عيشهم.
    ● [ فصل ] ●
    العقل طريق السعادة
    من سار مع العقل وخالف طريق الهوى ونظر إلى العواقب أمكنه أن يتمتع من الدنيا أضعاف ما تمتع من استعمل الشهوات. فأما المستعجل فيفوت نفسه حظ الدنيا والذكر الجميل، ويكون ذلك سبباً لفوات مراده من اللذات.
    وبيان هذا من وجهين: أحدهما: إن مال إلى شهوات النكاح وأكثر منها قل التذاذه وفنيت حرارته وكان ذلك سبباً في عدم مطلوبه منها.
    ومن استعمل ذلك بمقدار ما يجيزه العقل ويحتمله كان التذاذه أكثر، لبعد ما بين الجماعين، وأمكنه التردد لبقاء الحرارة.
    وكذلك من غش في معاملته أو خان، فإنه لا يعامل فيفوته ربح المعاملة الدائمة لخيانته مرة.
    ولو عرف بالثقة دامت معاملة الناس له فزاد ربحه.
    والثاني: أنه من اتقى الله وتشاغل بالعلم أو تحقيق الزهد، فتح له من المباحات ما يلتذ به كثيراً.
    ومن تقاعد به الكسل عن العلم أو الهوى عن تحقيق الزهد لم يحصل له إلا اليسير من مراده.
    قال عز وجل: " وَأًنْ لَوِ اسْتقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقاً " .
    ● [ فصل ] ●
    الصلة بالله
    ينبغي أن يكون العمل كله لله ومعه من أجله.
    وقد كفاك كل مخلوق وجلب لك كل خير.
    وإياك أن تميل عنه بموافقة هوى وإرضاء مخلوق، فإنه يعكس عليك الحال، ويفوتك المقصود.
    وفي الحديث: من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاماً.
    وأطيب العيش عيش من يعيش مع الخالق سبحانه.
    فإن قيل: كيف يعيش معه ؟ قلت: بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ومراعاة حدوده، والرضى بقضائه، وحسن الأدب في الخلوة، وكثرة ذكره، وسلامة القلب من الاعتراض في أقداره.
    فإن احتجب سألته، فإن أعطى وإلا رضيت بالمنع، وعلمت أنه لم يمنع بخلاً، وإنما نظراً لك.
    ولا تنقطع عن السؤال لأنك تتعبد به، ومتى دمت على ذلك رزقك محبته وصدق التوكل عليه، فصارت المحبة تدلك على المقصود، وأثمرت لك محبته إياك، فتعيش عيشة الصديقين.
    ولا خير في عيش إن لم يكن كذا، فإن أكثر الناس مخبط في عيشه، يداري الأسباب ويميل إليها بقلبه، ويتعب في تحصيل الرزق بحرص زائد على الحد، ويرغبه إلى الخلق ويعترض عند انكسار الأغراض.
    والقدر يجري ولا يبالي بسخط، ولا يحصل له إلا ما قدر.
    وقد فاته القرب من الحق والمحبة له، والتأدب معه، فذلك العيش عيش البهائم.
    ● [ فصل ] ●
    الإسراف شر
    نظرت في حكمة المطعم والمشرب والملبس والمنكح، فرأيت أن الآدمي لما خلق من أصول تتحلل، وهي الماء والتراب والنار والهواء، وبقاؤه إنما يكون بالحرارة والرطوبة والحرارة تحلل الرطوبة دائماً، فلم يكن هل بد من شيء يخلف ما بطل.
    ولما كان اللحم لا ينوب عنه إلا اللحم، أباح الشرع ذبح الحيوان ليتقوى به من هو أشرف منه.
    ولما كان بدنه يحتاج إلى كسوة، وله قدرة تمييز، وقدرة يصنع بها ما يقيه الأذى من القطن والصوف، لم يجعل على جلده ما يقيه خلقة، بخلاف الحيوان البهيم، فإنه لما لم يكن له قدرة على ما يغطي جلده عوضه بالريش والشعر والوبر.
    ولما لم يكن بد من فناء الآدمي والحيوان هيج شهوة الجماع لتخلف النسل.
    فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم والمشرب مقدار الحاجة والمصلحة، ليقع الالتذاذ بالعافية.
    ومن البلية طلب الالتذاذ بالمطعم وإن كان غير صالح والشره في تناوله، وكذلك الكسوة والنكاح.
    ومن الحزم جمع المال وادخاره لعارض حاجة من ذلك.
    ومن التغفيل إنفاق الحاصل، فربما عرضت حاجة فلم يقدر عليها فأثر عدمها في البدن أو في العرض بطلبها من الأنذال.
    ومن أقبح الأمور الانهماك في النكاح طلباً لصورة اللذة، ناسياً ما يجني ذلك من انحلال القوة، ويزيد في الحرام بالعقوبة.
    فمن مال إلى تدبير العقل سلم في دنياه وآخرته.
    ومن أعرض عن مشاورته أو عن القبول منه تعجل عطبه.
    فليفهم مقصود الموضوعات وحكمها والمراد منها، فمن لم يفهم ولم يعمل بمقتضى ما فهم كان كأجهل العوام، وإن كان عالماً.
    ● [ فصل ] ●
    في مخالطة الأمراء
    العجب ممن له مسكة من عقل أو عنده قليل من دين كيف يؤثر مخالطتهم.
    فإنه بالمخالطة لهم أو العمل معهم يكون قطعاً خائفاً من عزل أو قتل أو سم، ولا يمكنه أن يعمل إلا بمقتضى أوامرهم.
    فإن أمروا بما لا يجوز لم يقدر أن يراجع، فقد باع دينه قطعاً بدنياه فمنعه بالخوف من القيام بأمر الله وضاعت عليه آخرته.
    ولم يبق بيده إلا عاجل التعظيم وأن يقال بين يديه: بسم الله، وأن ينفذ أوامره.
    وذلك بعيد من السلامة في باب الدين وما يلتذ به منه في الدنيا ممزوج بخوف العزل والقتل.
    ● [ فصل ] ●
    الجزاء من جنس العمل
    من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما لا يصلح، فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم.
    وفي الجملة لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلاً، فقد يرفع المحتقر وقد يتمكن من لا يعد.
    بل ينبغي أن يكتم ما في النفوس من ضغن على الأعداء.
    فإن أمكن الانتقام منهم كان العفو انتقاماً لأنه يذلهم.
    وينبغي أن يحسن إلى كل أحد، خصوصاً من يجوز أن يكون له ولاية، وأن يخدم المعزول، فربما نفع في ولايته.
    وقد روينا أن رجلاً استأذن على قاضي القضاة ابن أبي داؤد وقال: قولوا له أبو جعفر بالباب.
    فلما سمع هش لذلك وقال: ائذنوا له.
    فدخل، فقام، وتلقاه وأكرمه وأعطاه خمسة آلاف، وودعه.
    فقيل له: رجل من العوام فعلت به هذا ؟.
    قال: إني كنت فقيراً، وكان هذا صديقاً، فجئته يوماً فقلت له: أنا جائع.
    فقال: اجلس، وخرج، فجاء بشواء وحلوى وخبز فقال: كل.
    فقلت: كل معي. قال: لا. قلت: والله لا آكل حتى تأكل معي، فأكل فجعل الدم يجري في فمه.
    فقلت: ما هذا ؟ فقال: مرض.
    فقلت: والله لا بد أن تخبرني.
    فقال: إنك لما جئتني لم أكن أملك شيئاً.
    وكانت أسناني مضببة بشريط من ذهب، فنزعته واشتريت به.
    فهلا أكافىء مثل هذا ؟.
    وعلى عكس هذه الأشياء كان ابن الزيات وزير الواثق، وكان يضع من المتوكل فلما ولي عذبه بأنواع العذاب.
    وكذلك ابن الجزري كان لا يوقر المسترشد قبل الولاية فجرت عليه الآفات لما ولي. فالعاقل من تأمل العواقب ورعاها.
    وتصور كل ما يجوز أن يقع فعلم بمقتضى الحزم.
    وأبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاجلاً؛ لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض.
    فالحازم من استعد له وعمل عمل من لا يندم إذا جاءه.
    وحذر من الذنوب فإنها كعدو مراصداً بالجزاء.
    وادخر لنفسه صالح الأعمال، فإنها كصديق صديق ينفع وقت الشدة.
    وأبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل علت مرتبته في الجنة، وإن نقص نقصت.
    فهو وإن دخل الجنة في نقص بالإضافة إلى كمال غيره، غير أنه قد رضي به ولا يشعر بذلك.
    فرحم الله من تلمح العواقب، وعمل بمقتضى التلمح، والله تعالى الموفق.
    ● [ فصل ] ●
    أهل الدنيا وأهل الآخرة
    لما جمعت كتابي المسمى بالمنتظم، في تاريخ الملوك والأمم، اطلعت على سير الخلق من الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والزهاد وغيرهم، فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعباً أذهب أديانهم، حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب.
    فمن الأمراء من يقتل ويصادر ويقطع ويحبس بغير حق ثم ينخرط في سلك المعاصي كأن الأمر إليه، أو قد جاءه الأمن من العقاب.
    فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني ؟ وينسى أنه قد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " قُلْ إِنِّي أًخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " .
    وقد انخرط جمع ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي لتحصيل أغراضهم العاجلة فما نفعهم العلم.
    ورأينا خلقاً من المتزهدين خالفوا لنيل أغراضهم، وهذا لأن الدنيا فخ والناس كالعصافير، والعصفور يريد الحبة وينسى الخنق.
    قد نسي أكثر الخلق مآلهم ميلاً إلى عاجل لذاتهم، فأقبلوا يسامرون الهوى ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل.
    فلقد باعوا بلذة يسيرة خيراً كثيراً، واستحقوا بشهوات مرذولة عذاباً عظيماً.
    فإذا نزل بأحدهم الموت قال: ليتني لم أكن، ليتني كنت تراباً، فيقال له ألآن ؟.
    فواأسفي لفائت لا يمكن استدراكه، ولمرتهن لا يصح فكاكه، ولندم لا ينقطع زمانه، ولمعذب عز عليه إيمانه بالله.
    بالله ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها ويعول عليها.
    ولا يمكن قبول مشاورتها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهى.
    فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب وابن عبد العزيز رضي الله عنهما، وفي العلماء أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وفي الزهاد أويس القرني.
    لقد أعطوا الحزم حقه وفهموا مقصود الوجود.
    وما هلك الهالكون إلا لقلة الصبر عن المشتهى.
    وربما كان فيهم من لا يؤمن بالبعث والعقاب.
    وليس العجب من ذاك إنما العجب من مؤمن يوقن، ولا ينفعه يقينه ويعقل العواقب ولا ينفعه عقله.
    ● [ فصل ] ●
    علو الهمة
    من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها كما قال الشاعر:
    وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
    وقال الآخر:
    ولكل جسم في النّحول بليةٌ ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
    وبيان هذا أن من علت همته طلب العلوم كلها ولم يقتصر على بعضها وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن.
    ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب.
    ثم يرى ترك الدنيا ويحتاج إلى ما لا بد منه.
    ويحب الإيثار ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، ويمنعه عز النفس عن الكسب من وجوه التبذل.
    فإن هو جرى على طبعه من الكرم، احتاج وافتقر وتأثر بدنه وعائلته.
    وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك.
    وفي الجملة يحتاج إلى معاناة وجمع بين أضداد، فهو أبداً في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ.
    ثم إذا حقق الإخلاص في الأعمال زاد تعبه وقوي وصبه، فأين هو ومن دنت همته ؟ إن كان فقيهاً فسئل عن حديث قال ما أعرفه، وإن كان محدثاً فسئل عن مسألة فقهية قال ما أدري، ولا يبالي إن قيل عنه مقصر.
    والعالي الهمة يرى التقصير في بعض العلوم فضيحة قد كشفت عيبه، وقد رأت الناس عورته.
    والقصير الهمة لا يبالي بمنن الناس ولا يستقبح سؤالهم ولا يأنف من رد، والعالي الهمة لا يحمل ذلك.
    ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى، وراحة القصير الهمة تعب وشين إن كان ثم فهم.
    والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة أن لا يقصر في شوطه.
    فإن سبق فهو المقصود. وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم.
    ● [ فصل ] ●
    إعجاب المرء بنفسه
    المصيبة العظمى رضى الإنسان عن نفسه واقتناعه بعلمه، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق.
    فترى اليهودي أو النصراني يرى أنه على الصواب، ولا يبحث ولا ينظر في دليل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
    وإذا سمع ما يلين قلبه مثل القرآن المعجز هرب لئلا يسمع.
    وكذلك كل ذي هوى يثبت عليه، إما لأنه مذهب أبيه وأهله، أو لأنه نظر نظراً أول فرآه صواباً، ولم ينظر فيما يناقضه، ولم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه.
    ومن هذا حال الخوارج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإنهم استحسنوا ما وقع لهم ولم يرجعوا إلى من يعلم.
    ولما لقيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فبين لهم خطأهم رجع عن مذهبه منهم ألفان.
    وممن لم يرجع عن هواه ابن ملجم، فرأى مذهبه هو الحق فاستحل قتل أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه ورآه ديناً حتى أنه لما قطعت أعضاؤه لم يمانع.
    فلما طلب لسانه يقطع انزعج وقال: كيف أبقى ساعة في الدنيا لا أذكر الله.
    ومثل هذا ما له دواء.
    وكذلك كان الحجاج يقول: والله ما أرجو الخير إلا بعد الموت.
    هذا قوله وكم قتل من لا يحل قتله، منهم سعيد بن جبير.
    وقد أخبرنا عبد الوهاب وابن ناصر الحفاظ قالا أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي قال أخبرنا إسماعيل بن سعيد قال حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثنا أبو عيسى الختلي قال حدثنا أبو يعلى قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو عاصم عن عباد بن كثير بن قحدم قال: وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثون ألفاً، ما يجب على واحد منهم قطع ولا قتل ولا صلب.
    قلت وعموم السلاطين يقتلون ويقطعون ظناً منهم جواز ذلك، ولو سألوا العلماء بينوا لهم.
    وعموم العوام يبارزون بالذنوب اعتماداً على العفو وينسون العقاب.
    ومنهم من يعتمد أني من أهل السنة، أو أن لي حسنات قد تنفع، وكل هذا لقوة الجهل.
    فينبغي للإنسان أن يبالغ في معرفة الدليل ولا يساكن شبهته، ولا يثق بعلم نفسه نسأل الله السلامة من جميع الآفات.

    صيد الخاطر [ 16 ] Fasel10

    كتاب : صيد الخاطر
    المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن الجوزي
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    صيد الخاطر [ 16 ] E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 21:30