منتدى غذاؤك دواؤك

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها

    avatar
    غذاؤك
    Admin


    عدد المساهمات : 2100
    تاريخ التسجيل : 12/11/2013

    من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها Empty من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها

    مُساهمة من طرف غذاؤك الثلاثاء 22 ديسمبر 2015 - 14:57

    من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها Batota10

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    رحلات إبن بطوطة
    الجزء الأول
    من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها
    من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها 1410
    ● [ ذكر جامع دمشق ] ●
    المعروف بجامع بني امية

    وهو أعظم مساجد الدنيا احتفالاً، وأتقنها صناعة، وأبدعها حسناً وبهجة وكمالاً، ولا يعلم له نظير، ولا يوجد له شبيه، وكان الذي تولى بناءه وإتقانه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان. ووجه إلى ملك الروم بقسطنطينية يأمره أن يبعث إليه الصناع، فبعث إليه اثني عشر ألف صانع. وكان موضع المسجد كنيسة. فلما افتتح المسلمون دمشق دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه من إحدى جهاتها بالسيف، فانتهى إلى نصف الكنيسة. ودخل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من الجهة الغربية صلحاً، فانتهى إلى نصف الكنيسة. فصنع المسلمون من نصف الكنيسة الذي دخلوه عنوة مسجداً، وبقي النصف الذي صالحوا عليه كنيسة. فلما عزم الوليد على زيادة الكنيسة في المسجد طلب من الروم أن يبيعوا له كنيستهم تلك بما شاءوا من عوض، فأبوا عليه. فانتزعها من أيديهم. وكانوا يزعمون أن الذي يهدمها يجن، فذكروا ذلك للوليد فقال: أنا اول من يجن في سبيل الله، وأخذ الفأس وجعل يهدم بنفسه. فلما رأس المسلمون ذلك تتابعوا على الهدم. وأكذب الله زعم الروم. وزين هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء، تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن، وذرع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة، وهي ثلاثمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مائتا ذراع، وعدد شمسات الزجاج الملون الذي فيه أربع وسبعون. وبلاطاته الثلاثة مستطيلة من شرق إلى غرب، سعة كل بلاط منها ثماني عشرة خطوة. وقد قامت على أربع وخمسين سارية، وثماني أرجل حصية، تتخللها، وست أرجل مرخمة مرصعة بالرخام الملون، قد صور فيها أشكال محاريب وسواها. وهي ثقل قبة الرصاص التي امام المحراب المسماة بقبة النسر كأنهم شبهوا المسجد نسراً طائراً، والقبة رأسه، وهي من أعجب مباني الدنيا.
    ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلد، وتستدير بالصحن بلاطات ثلاثة من جهاته الشرقية والغربية والجوفية، سعة كل بلاط منها عشر خطى. وبها من السواري ثلاث وثلاثون، ومن الأرجل أربع عشرة وسعة الصحن مائة ذراع، وهو من أجمل المناظر وأتمها حسناً، وبها يجتمع أهل المدينة بالعشايا، فمن قارئ ومحدث وذاهب. ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة وإذا لقي أحد كبرائهم من الفقهاء وسواهم صاحباً له أسرع كل منهما نحو صاحبه وقبل رأسه. وفي هذا الصحن ثلاث من القباب إحداها في غربيه، وهي أكبرها وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين. وهي قائمة على ثماني سوارٍ من الرخام مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة مسقفة بالرصاص.
    ويقال: إن مال الجامع كان يختزن بها. وذكر لي أن فوائد مستغلات الجامع وجبايته نحو خمسة وعشرين ألف دينار ذهباً في كل سنة. والقبة الثانية من شرقي الصحن على هيئة الأخرى، إلا أنها أصغر منها قائمة على ثمانٍ من سواري الرخام، وتسمى قبة زين العابدين. والقبة الثالثة في وسط الصحن، وهي صغيرة مثمنة من رخام عجيب محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوارٍ من الرخام الناصع وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاس، يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين. وهم يسمونهم قفص الماء. ويستحسن الناس وضع أفواههم فيه للشرب. وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد بديع الوضع يسمى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويقابله من الجهة الغربية حيث يلتقي البلاطان الغربي والجوفي موضع يقال : إن عائشة رضي الله عنها سمعت الحديث هنالك
    وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيه المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الشام. وتفتح تلك الخزانة كل يوم جمعة بعد الصلاة فيزدحم الناس على لثم ذلك المصحف الكريم. وهنالك يحلف الناس غرماءهم ومن ادعوا عليه شيئاً. وعن يسار المقصورة محراب الصحابة. ويذكر أهل التاريخ أنه أول محراب وضع في الإسلام - وفيه يؤم إمام المالكية - وعن يمين المقصورة محراب الحنفية وفيه يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة وفيه يؤم إمامهم. ولهذا المسجد ثلاث صوامع إحداها بشرقيه، وهي من بناء الروم. وبابها داخل المسجد، وبأسفلها مطهرة وبيوت للوضوء يغتسل فيها المعتكفون والملتزمون للمسجد ويتوضأون. والصومعة الثانية بغربيه وهي أيضاً من بناء الروم والصومعة الثالثة بشماله، وهي من بناء المسلمين. وعدد المؤذنين به سبعون مؤذناً. وفي شرقي المسجد صومعة كبيرة فيها صهريج ماء وهي لطائفة الزيالعة السودان. وفي وسط المسجد قبر زكريا عليه السلام، وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسو بثوب حرير أسود معلم فيه مكتوب بالأبيض : ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ) وهذا المسجد شهير الفضل. وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة. وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يعبد الله فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة ) . ويقال: إن الجدار القبلي منه وضعه نبي الله هود عليه السلام، وأن قبره به. وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار اليمن بموضع يقال له: الأحقاف بنية فيها قبر مكتوب عليه هذا قبر هود بن عابر صلى الله عليه وسلم. ومن فضائل هذا المسجد أنه لا يخلو عن قراءة القرآن والصلاة إلا قليلاً من الزمان، كما سنذكره. والناس يجتمعون به كل يوم إثر صلاة الصبح فيقرأون سبعاً من القرآن ويجتمعون بعد صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرأون فيها من سورة الكوثر إلى آخر القرآن. وللمجتمعين على هذه القراءة مرتبات تجري لهم وهم نحو ستمائة إنسان. ويدور عليهم كاتب الغيبة، فمن غاب منهم قطع له عند دفع المرتب بقدر غيبته. وفي هذا المسجد جماعة كبيرة من المجاورين لا يخرجون منه مقبلون على الصلاة والقراءة والذكر، لا يفترون عن ذلك. ويتوضأون من المطاهر التي بداخل الصومعة الشرقية التي ذكرناها. وأهل البلد يعينونهم بالمطاعم والملابس من غير أت يسألوهم شيئاً من ذلك، وفي هذا المسجد أربعة أبواب: باب قبلي يعرف بباب الزيادة، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولهذا الباب دهليز كبير متسع فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه يذهب إلى دار الخيل. وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين، وهي سوق عظيمة تمتد مع جدار المسجد القبلي، من أحسن أسواق دمشق. وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ودور قومه، وكانت تسمى الخضراء. فهدمها بنو العباس رضي الله عنهم وصار مكانها سوقاً. وباب شرقي وهو أعظم أبواب المسجد، ويسمى بباب جيرون. وله دهليز عظيم يخرج منه إلى بلاط عظيم طويل أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال. وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه . وبإزائه مسجد صغير ينسب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وبه ماء جارٍ. وقد انتظمت أمام البلاط درج ينحدر فيها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم يتصل بباب عظيم الارتفاع تحته أعمدة كالجذوع طوال وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزازين وغيرهم. وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة. وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود، منها دكان للشافعية، وسائرها لأصحاب المذاهب. يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول، والعاقد للأنكحة من قبل القاضي، وسائر الشهود مفترقون في المدينة. وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الوراقين الذين يبيعون الكاغد والأقلام والمداد. وفي الدهليز المذكور حوض من الرخام الكبير مستدير عليه قبة لا سقف لها، تقلها أعمدة رخام وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يمج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان يسمونه الفوارة، منظره عجيب. وعن يمين الخارج من باب جيرون وهو باب الساعات ، غرفة لها هيئة طاق كبير فيه طيقان صغار مفتحة لها أبواب على عدد ساعات النهار. والأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهراً والظاهر الأصفر باطناً. ويقال: إن بداخل الغرفة من يتولى قلبها بيده عند مضي الساعات . والباب الغربي يعرف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه مدرسة الشافعية. وله دهليز فيه حوانيت للشماعين، وسماط لبيع الفواكه. وبأعلاه باب يصعد إليه في درج له أعمدة سامية في الهواء. وتحت الدرج سقايتان عن يمين وشمال مستديرتان. والباب الجوفي يعرف بباب النطفانيين، وله دهليز عظيم. وعن يمين الخارج منه خانقاه تعرف بالشميعانية، في وسطها صهريج ماء. ولها مطاهر يجري فيها الماء. ويقال: إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه . وعلى كل باب من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء يكون فيها نحو مائة بيت تجري فيها المياه الكثيرة . وأئمته ثلاثة عشر إماما ً. أولهم الشافعية، وكان في عهد دخولي إليها إمامهم قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني من كبار الفقهاء، وهو الخطيب بالمسجد، وسكناه بدار الخطابة، ويخرج من باب الحديد إزاء المقصورة وهو الباب الذي كان يخرج منه معاوية. وقد تولى جلال الدين بعد ذلك قضاء القضاة بالديار المصرية، بعد أن أدى عنه الملك الناصر نحو مائة ألف درهم كانت ديناً عليه بدمشق. وإذا سلم إمام الشافعية من صلاته أقام للصلاة إمام مشهد علي، ثم إمام مشهد الحسين ثم إمام مشهد الكلاسة ثم إمام مشهد أبي بكر ثم إمام مشهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين، ثم إمام المالكية. وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه أبو عمر بن الوليد بن الحاج التجيبي ، القرطبي الأصل، الغرناطي المولد، نزيل دمشق. وهو يتناوب الإمامة مع أخيه رحمهما الله. ثم إمام الحنفية، وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه عماد الدين الحنفي المعوف بابن الرومي، وهو من كبار الصوفية. وله شياخة الخانقاه الخاتونية؛ وله أيضاً خانقاه بالشرف الأعلى. ثم إمام الحنابلة وكان ذلك العهد الشيخ عبد الله الكفيف أحد شيوخ القراء بدمشق. ثم بعد هؤلاء خمسة أئمة لقضاة الفوائت فلا تزال الصلاة في هذا المسجد من أول النهار إلى ثلث الليل، وكذلك قراءة القرآن وهذا من مفاخر الجامع المبارك . ولهذا المسجد حلقات للتدريس في فنون العلم. والمحدثون يقرأون كتب الحديث على كراسي مرتفعة. وقراء القرآن يقرأون بالأصوات الحسنة صباحاً ومساء. وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله يستند كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يلقن الصبيان ويقرئهم. وهم لا يكتبون القرآن في الألواح تنزيهاً لكتاب الله تعالى، وإنما يقرأون القرآن تلقيناً. ومعلم الخط غير معلم القرآن، يعلمهم بكتب الأشعار وسواها، فينصرف الصبي من التعليم إلى التكتيب، وبذلك جاد خطه لأن المعلم للخط لا يعلم غيره. ومن المدرسين بالمسجد المذكور العالم الصالح برهان الدين بن الفركاح الشافعي، ومنهم العالم الصالح نور الدين أبو اليسر بن الصائغ من المشتهرين بالفضل والصلاح. ولما ولي القضاء بمصر جلال الدين القزويني وجه إلى أبي اليسر الخلعة والآمر بقضاء دمشق، فامتنع من ذلك. ومنهم الإمام العالم شهاب الدين بن جهيل من كبار العلماء. هرب من دمشق لما امتنع أبو اليسر من قضائها خوفاً من أن يقلد القضاء فاتصل ذلك بالملك الناصر فولى قضاء دمشق شيخ الشيوخ بالديار المصرية قطب العارفين لسان المتكلمين علاء الدين القونوي وهو من كبار الفقهاء. ومنهم الإمام الفاضل بدر الدين علي السخاوي رحمة الله عليهم أجمعين.
    ● [ ذكر قضاة دمشق ] ●

    قد ذكرنا قاضي القضاة الشافعي بها جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني. وأما قاضي المالكية فهو شرف الدين، خطيب الفيوم، حسن الصورة والهيئة من كبار الرؤساء. وهو شيخ شيوخ الصوفية، والنائب عنه في القضاء شمس الدين بن القفصي، ومجلس حكمه بالمدرسة الصمصامية. وأما قاضي قضاة الحنفية فهو عماد الدين الحوراني. وكان شديد السطوة. وإليه تحاكم النساء وأزواجهن. وكان الرجل إذا سمع اسم القاضي الحنفي أنصف من نفسه قبل الوصول إليه. وأما قاضي الحنابلة فهو الإمام الصالح عز الدين بن مسلم من خيار القضاة ينصرف على حمار له ومات بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توجه للحجاز الشريف
    وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون. إلا أن في عقله شيئاً. وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعظهم على المنبر. وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال: إن هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول ? قال: لا إله إلا الله فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله. فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواماً. وصنف في السجن كتاباً في تفسير القرآن سماه البحر المحيط، في نحو أربعين مجلداً. ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية. وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم. فكان من جملة كلامه أن قال : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلم به. فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، لإامر بسجنه وعزره بعد ذلك. فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم. فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمة إلا طلقة واحدة ومنها المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيباً لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك ما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسجن بها حتى مات في السجن.
    ● [ ذكر مدارس دمشق ] ●

    اعلم أن للشافعية بدمشق جملة من المدارس، أعظمها العادلية وبها يحكم قاضي القضاة. وتقابلها المدرسة الظاهرية، وبها قبر الملك الظاهر، وبها جلوس نواب القاضي. ومن نوابه فخر الدين القبطي وكان والده من كتاب القبط وأسلم.ومنهم جمال الدين بن جملة، وقد تولى قضاء قضاة الشافعية بعد ذلك، وعزل لأمر أوجب عزله.
    كان بدمشق الشيخ الصالح ظهير الدين العجمي. وكان سيف الدين تنكيز ملك الأمراء يتتلمذ له ويعظمه. فحضر يوماً بدار العدل عند ملك الأمراء، وحضر القضاة الأربعة. فحكى قاضي القضاة جمال الدين بن جملة حكاية. فقال له ظهير الدين: كذبت. فأنف القاضي من ذلك وامتعض له. فقال للأمير: كيف يكذبني بحضرتك ? فقال له الأمير: احكم عليه، وسلمه إليه وظنه أنه يرضى بذلك فلا يناله بسوء. فأحضره القاضي بالمدرسة العادلية وضربه مائتي سوط، وطيف به على حمار في مدينة دمشق، ومنادٍ ينادي عليه، فمتى فرغ من ندائه ضربه على ظهره ضربة، وهكذا العادة عندهم. فبلغ ذلك ملك الأمراء، فأنكره أشد الإنكار، وأحضر القضاة والفقهاء، فاجمعوا على خطأ القاضي، وحكمه بغير مذهبه. فإن التعزيز عند الشافعي لا يبلغ به الحد. وقال قاضي المالكية شرف الدين: قد حكمت بتفسيقه فكتب إلى الملك الناصر بذلك، فعزله. وللحنفيه مدارس كثيرة. وأكبرها مدرسة السلطان نور الدين، وبها يحكم قاضي الحنفيه. وللمالكية بدمشق ثلاث مدارس إحداها الصمصامية، وبها سكن قاضي قضاة المالكية وقعوده للأحكام، والمدرسة النورية عمرها السلطان نور الدين محمود بن زنكي، والمدرسة الشرابشية عمرها شهاب الدين الشرابشي التاجر، وللحنابلة مدارس كثيرة أعظمها النجمية.
    ● [ ذكر أبواب دمشق ] ●

    ولمدينة دمشق ثمانية أبواب، منها باب الفراديس، ومنها باب الجابية ومنها الباب الصغير. وفيما بين هذين البابين مقبرة فيها العدد الجم من الصحابة والشهداء، فمن بعدهم.
    قال محمد بن جزي: لقد أحسن بعض المتأخرين من أهل دمشق في قوله:
    دمشق في أوصافها . جنة خــلــدٍ راضـيه
    أما تـرى أبوابهــــا . قد جـعـلـت ثـمـانـــيه
    ● [ ذكر بعض المشاهد والمزارات بها ] ●

    فمنها بالمقبرة التي بين باب الجابية والباب الصغير قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، وقبر أخيها أمير المؤمنين معاوية، وقبر بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين، وقبر أويس القرني، وقبر كعب الأحبار رضي الله عنهما. ووجدت في كتاب المعلم في شرح صحيح مسلم للقرطبي أن جماعة من الصحابة صحبهم أويس القرني من المدينة إلى الشام، فتوفي في أثناء الطريق في برية لا عمارة فيها ولا ماء فتحيروا في أمره، فنزلوا، فوجدوا حنوطاً وكفناً وماء، فعجبوا من ذلك، وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. ثم ركبوا فقال بعضهم: كيف نترك قبره بغير علامة فعادوا للموضع فلم يجدوا للقبر من أثر. قال ابن جزي: ويقال: إن أويساً قتل بصفين مع علي عليه السلام، وهو الأصح إن شاء الله ويلي باب الجابية باب شرقي عنده جبانة فيها قبر أبي بن كعب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها قبر العابد الصالح أرسلان المعروف بالباز الأشهب.
    يحكى أن الشيخ الولي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكته بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط، وكانت بين ولي الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة. ويقال: إن كل واحد منهما كان يسلم على صاحبه صباحاً ومساء فيرد عليه الآخر. وكانت للشيخ أحمد نخيلات عند زاويته، فلما كان في إحدى السنين جذها على عادته وترك عذقاً منها وقال هذا برسم أخي شعيب فحج الشيخ أبو مدين تلك السنة واجتمعا بالموقف الكريم بعرفة. ومع الشيخ أحمد خديمه أرسلان، فتفاوضا الكلام. وحكى الشيخ حكاية العذق فقال له أرسلان عن أمرك يا سيدي آتيه به. فأذن له. فذهب في حينه وأتاه به ووضعه بين أيديهما، فأخبر أهل الزاوية أنهم رأوا عشية يوم عرفة بازاً أشهب قد انقض على النخلة فقطع ذلك العذق وذهب به في الهواء. وبغربي دمشق جبانة تعرف بقبور الشهداء. فيها قبر أبي الدرداء وزجة أم الدرداء، وقبر فضالة بن عبيد، وقبر وائلة بن الأسقع، وقبر سهل بن حنظلة من الذين بايعوا تحت الشجرة رضي الله عنهم أجمعين. وبقرية تعرف بالمنيحة شرقي دمشق وعلى أربعة أميال منها قبر سعد ابن عبادة رضي الله عنه، وعليه مسجد صغير حسن البناء، وعلى رأسه حجر مكتوب عليه هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً وبقرية قبلي البلد وعلى فرسخ منها مشهد أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة عليهم السلام. ويقال: إن اسمها زينب وكناها النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم لشبهها بخالتها أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مسجد كبير، وحوله مساكن، وله أوقاف. ويسميه أهل دمشق قبر الست أم كلثوم. وقبر آخر يقال: إنه قبر سكينة بنت الحسين بن علي عليه السلام. وبجامع النيرب من قرى دمشق في بيت بشرقيه قبر يقال: إنه قبر أم مريم عليها السلام. وبقرية تعرف بداريا، غرب البلد وعلى أربعة أميال منها قبر أبي مسلم الخولاني، وقبر أبي سليمان الداراني رضي الله عنهما. ومن مشاهد دمشق الشهيرة البركة مسجد الأقدام، وهو في قبلي دمشق، على ميلين منها، على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى الحجاز الشريف والبيت المقدس وديار مصر وهو مسجد عظيم كثير البركة وله أوقاف كثيرة، ويعظمه أهل دمشق تعظيماً شديداً. والأقدام التي ينسب إليها هي أقدام مصورة في حجر هناك يقال: إنها أثر قدم موسى عليه السلام. وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه كان بعض الصالحين يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم في النوم فيقول له ها هنا قبر أخي موسى عليه السلام. وبمقربة من هذا المسجد موضع يعرف بالكثيب الأخضر، وبمقربة من بيت المقدس وأريحاء موضع يعرف بالكثيب الأحمر تعظمه اليهود.
    شاهدت أيام الطاعون الأعظم بدمشق في أواخر ربيع الثاني سنة تسع وأربعين من تعظيم أهل دمشق لهذا المسجد ما يعجب منه، وهو أن ملك الأمراء نائب السلطان أرغون شاه أمر منادياً ينادي بدمشق أن يصوم الناس ثلاثة أيام، ولا يطبخون بالسوق. فصام الناس ثلاثة أيام متوالية، كان آخرها يوم الخميس. ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في الجامع، حتى غص بهم، وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصلٍ وذاكر وداعٍ، ثم صلوا الصبح، وخرجوا جميعاً على أقدامهم، وبأيديهم المصاحف، والأمراء حفاة.وخرج جميع أهل البلد ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، وخرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء والولدان،وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه، وقصدوا مسجد الأقدام، وأقاموا به في تضرعهم ودعائهم إلى قرب الزوال، وعادوا إلى البلد، وصلوا الجمعة. وخفف الله تعالى عنهم عندما انتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد - وقد انتهى عددهم بالقاهرة ومصر إلى أربعة وعشرين ألفاً باليوم الواحد - وبالباب الشرقي من دمشق منارة بيضاء يقال إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما ورد في صحيح مسلم.
    ● [ ذكر أرباض دمشق ] ●

    وتدور بدمشق من جهاتها ما عدا الشرقية أرباض فسيحة الساحات، دواخلها أملح من داخل دمشق، لأجل الضيق الذي في سككها. وبالجهة الشمالية منها ربض الصالحية، وهي مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه، وفيها مسجد جامع ومارستان، وبها مدرسة تعرف بمدرسة ابن عمر موقوفة على من أراد أن يتعلم القرآن الكريم من الشيوخ والكهول. وتجري لهم ولمن يعلمهم كفايتهم من المآكل والملابس وبداخل البلد أيضاً مدرسة مثل هذه تعرف بمدرسة ابن منجا وأهل الصالحية كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
    ● [ ذكر قاسيون ومشاهده المباركة ] ●

    وقاسيون : جبل في شمال دمشق، والصالحية في سفحه وهو شهير البركة ، لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام. ومن مشاهده الكريمة الغار الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام وهو غار مستطيل ضيق، عليه مسجد كبير، وله صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى الكوكب والقمر والشمس حسبما ورد في الكتاب العزيز وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه. وقد رأيت ببلاد العراق قرية تعرف ببرص " بضم الباء الموحدة وآخرها صاد مهمل "، ما بين الحلة وبغداد يقال: إن مولد إبراهيم عليه السلام كان بها وهي بمقربة من بلد ذي الكفل عليه السلام، وبها قبره. ومن مشاهده بالغرب منه، مغارة الدم، وفوقها بالجبل دم هابيل بن آدم عليه السلام، وقد أبقى الله منه في الحجارة أثراً محمراً وهو الموضع الذي قتله أخوه به، واجتره إلى المغارة. ويذكر أن تلك المغارة صلى فيها إبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ولوط صلى الله عليهم أجمعين وعليها مسجد متقن البناء يصعد إليه على درج وفيه بيوت ومرافق للسكنى ويفتح في كل يوم اثنين وخميس والشمع والسرج توقد في المغارة ومنها كهف بأعلى الجبل ينسب لآدم عليه السلام وعليه بناء وأسفل منه مغارة تعرف بمغارة الجوع يذكر أنه أوى إليها سبعون من الأنبياء عليهم السلام، وكان عندهم رغيف فلم يزل يدور عليهم، وكل منهم يؤثر صاحبه به، حتى ماتوا جميعاً صلى الله عليهم، وعلى هذه المغارة مسجد مبني والسرج توقد فيه ليلاً ونهاراً ولكل مسجد من هذه المساجد أوقاف كثيرة معينة ويذكر أن فيما بين باب الفراديس وجامع قاسيون مدفن سبعمائة نبي، وبعضهم يقول سبعين ألفاً، وخارج المدينة المقبرة العتيقة، وهي مدفن الأنبياء والصالحين وفي طرفها مما يلي البساتين أرض منخفضة غلب عليها الماء يقال: إنها مدفن سبعين نبياً وقد عادت قراراً للماء ونزهت من أن يدفن فيها أحد.
    ● [ ذكر الربوة والقرى التي تواليها ] ●

    وفي آخر جبل قاسيون الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله ذات القرار والمعين، ومأوى المسيح عيسى وأمه عليهما السلام. وهي من أجمل مناظر الدنيا ومنتزهاتها وبها القصور المشيدة والمباني الشريفة والبساتين البديعة والمأوى المبارك، مغارة صغيرة في وسطها كالبيت الصغير، وإزاءها بيت يقال: إنه مصلى الخضر عليه السلام يبادر الناس إلى الصلاة فيها. وللمأوى باب حديد صغير والمسجد يدور به وله شوارع دائرة وساقية حسنة، ينزل لها الماء من علو وينصب في شاذروان في الجدار يتصل بحوض من رخام، ويقع فيه الماء ولا نظير له في الحسن وغرابة الشكل وبقرب ذلك مطاهر للوضوء يجري فيها الماء وهذه الربوة المباركة هي رأس بساتين دمشق، وبها منابع مياهها، وينقسم الماء الخارج منها على سبعة أنهار، كل نهر آخذ في جهة، ويعرف ذلك الموضع بالمقاسم، وأكبر هذه الأنهار النهر المسمى بتورة وهو يشق تحت الربوة، وقد نحت له مجرى في الحجر الصلد، كالغار الكبير، وربما انغمس ذو الجسارة من العوامين في النهر من أعلى الربوة واندفع في الماء حتى يشق مجراه ويخرج من أسفل الربوة، وهي مخاطرة عظيمة وهذه الربوة تشرف على البساتين الدائرة بالبلد، ولها من الحسن واتساع مسرح الأبصار ما ليس لسواها. وتلك الأنهار السبعة تذهب في طرق شتى، فتحار الأعين في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاعها وانصبابها. وجمال الربوة وحسنها التام أعظم من أن يحيط به الوصف. ولها الأوقاف الكثيرة من المزارع والبساتين والرباع، تقام منها وظائفها للإمام والمؤذن والصادر والوارد وبأسفل الربوة قرية النيرب وقد تكاثرت بساتينها وتكاثفت ظلالها وتدانت أشجارها فلا يظهر من بنائها إلا ما سما ارتفاعه ولها حمام مليح ولها جامع بديع مفروش صحنه بفصوص الرخام، وفيه سقاية رائعة الحسن ومطهرة، فيها بيوت عدة يجري فيها الماء وفي القبلي من هذه القرية قرية المزة وتعرف بمزة كلب نسبة إلى قبيلة كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وكانت إقطاعاً لهم وإليها ينسب الإمام حافظ الدنيا جمال الدين يوسف بن الزكي الكلبي المزي وكثير سواه من العلماء وهي من أعظم قرى دمشق بها جامع كبير عجيب، وسقاية معينة وأكثر قرى دمشق فيها الحمامات والمساجد الجامعة والأسواق وسكانها كأهل الحاضرة في مناحيهم، وفي شرقي البلد قرية تعرف ببيت الأهبة وكانت فيها كنيسة يقال: إن آزر كان يجلب فيها الأصنام فيكسرها الخليل عليه السلام، وهي الآن مسجد جامع بديع مزين بفصوص الرخام الملونة المنظمة بأعجب نظام وأزين التئام.
    ● [ ذكر الأوقاف بدمشق ] ●
    وبعض فضائل أهلها وعوائدهم

    والأوقاف بدمشق لاتحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أوزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير.
    حكاية
    مررت يوماً ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم، إجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني ، فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن. وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بد له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره وهو أيضاً ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبراً للقلوب جزى الله خيراً من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا.
    ● [ فضائل أهل دمشق ] ●

    وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد وهم يحسنون الظن بالمغاربة، ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يتأتى له وجه من المعاش، من إمامة مسجد، أو قراءة بمدرسة أو ملازمة مسجد، يجيء إليه فيه رزقه أو قراءة القرآن، أوخدمة مشهد من المشاهد المباركة، أو يكون كجملة الصوفية بالخوانق، تجري له النفقة والكسوة فمن كان بها غريباً على خير لم يزل مصوناً عن بذل وجهه محفوظاً عما يزري بالمروءة ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر، من حراسة بستان أو أمانة طاحونة أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة وجد الإعانة التامة على ذلك. ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده ألبتة فمن كان من الأمراء والقضاة والكبراء، فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده، ومن كان من التجار وكبار السوقة صنع مثل ذلك، ومن كان من الضعفاء والبادية فأنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد، ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعاً، ولما وردت دمشق وقعت بيني وبين نور الدين السخاوي مدرس المالكية صحبة فرغب مني أن أفطر عنده في ليالي رمضان فحضرت عنده أربع ليالٍ ثم أصابتني الحمى فغبت عنه، فبعث في طلبي، فاعتذرت بالمرض، فلم يسعني عذراً فرجعت إليه وبت عنده فلما أردت الانصراف بالغد منعني من ذلك وقال لي: احسب داري كأنها دارك أو دار أبيك أو أخيك، وأمر بإحضار طبيب وأن يصنع لي بداره كل ما يشتهيه الطبيب من دواء أو غذاء، وأقمت كذلك عنده إلى يوم العيد، وحضرت المصلى وشفاني الله تعالى مما أصابني.
    وقد كان ما عندي من النفقة نفد، فعلم بذلك فاكترى لي جمالاً وأعطاني الزاد وسواه وزادني دراهم وقال لي: تكون لما عسى أن يعتريك من أمر مهم، جزاه الله خيراً. وكان بدمشق فاضل من كتاب الملك الناصر يسمى عماد الدين القيصراني من عاداته أنه متى سمع أن مغربياً وصل إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه، فإن عرف منه الدين والفضل أمره بملازمته. وكان يلازمه منهم جماعة. وعلى هذه الطريقة أيضاً كاتب السر الفاضل علاء الدين بن غانم وجماعة غيره.
    وكان بها فاضل من كبرائها وهو الصاحب عز الدين القلانسي، له مآثر ومكارم وفضائل وإيثار، وهو ذو مال عريض وذكروا أن الملك الناصر لما قدم دمشق أضافة وجميع أهل دولته ومماليكه وخواصه ثلاثة أيام فسماه اذ ذاك بالصاحب. ومما يؤثر من فضائلهم أن أحد ملوكهم السالفين لما نزل به الموت أوصى أن يدفن بقبلة الجامع المكرم، ويخفى قبره. وعين أوقافاً عظيمة لقراء يقرأون سبعاً من القرآن الكريم في كل يوم إثر صلاة الصبح بالجهة االشرقية من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم حيث قبره فصارت قراءة القرآن على قبره لا تنقطع أبداً، وبقي ذلك الرسم الجميل بعده مخلداً ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد أنهم يخرجون بعد صلاة العصر من يوم عرفة، فيقفون بصحون المساجد كبيت المقدس وجامع بني أمية وسواها، ويقف بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم داعين خاضعين خاشعين ملتمسين البركة، ويتوخون الساعة التي يقف فيها وفد الله تعالى وحجاج بيته بعرفات، ولا يزالون في خضوع ودعاء وابتهال وتوسل إلى الله تعالى بحجاج بيته إلى أن تغيب الشمس، فينفرون كما ينفر الحاج، باكين على ما حرموه من ذلك الموقف الشريف بعرفات، داعين إلى الله تعالى أن يوصلهم إليها ولا يخيبهم من بركة القبول فيما فعلوه، ولهم أيضاً في اتباع الجنائز رتبة عجيبة وذلك أنهم يمشون أمام الجنازة، والقراء يقرأون القرآن بالأصوات الحسنة والتلاحين المبكية التي تكاد النفوس تطير لها رقة، وهم يصلون على الجنائز بالمسجد الجامع قبالة المقصورة فإن كان الميت من أئمة الجامع أو مؤذنيه أو خدامه أدخلوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه، وإن كان من سواهم قطعوا القراءة عند باب المسجد وأدخلوا الجنازة وبعضهم يجتمع له بالبلاط الغربي من الصحن بمقربة من باب البريد، فيجلسون وأمامهم ربعات القرآن يقرأون فيها ويرفعون أصواتهم بالنداء لكل من يصل للعزاء من كبار البلدة وأعيانها ويقولون بسم الله فلان الدين من كمال وجمال شمس وبدر وغير ذلك، فإذا أتموا القراءة قام المؤذنون فيقولون افتكروا واعتبروا صلاتكم على فلان الرجل الصالح العالم ويصفونه بصفات من الخير، ثم يصلون عليه ويذهبون به إلى مدفنة. ولأهل الهند رتبة عجيبة في الجنائز أيضاً زائدة على ذلك، وهي أنهم يجتمعون بروضة الميت صبيحة الثالث من دفنه وتفرش الروضة بالثياب الرفيعة، ويكسى القبر بالأكسية الفاخرة، وتوضع حوله الرياحين من الورد والنسرين والياسمين وذلك النوار لا ينقطع عندهم ويأتون بأشجار الليمون والأترج، ويجعلون فيها حبوبها إن لم تكن فيها، ويجعلون صيواناً يظلل الناس نحوه، ويأتي القضاة والأمراء ومن يماثلهم فيقعدون، ويقابلهم القراء ويؤتى بالربعات الكرام فيأخذ كل واحد منهم جزءاً، فإذا تمت القراءة من القراء بالأصوات الحسان يدعو القاضي ويقوم قائماً ويخطب خطبة معدة لذلك، ويذكر فيها الميت ويرثيه بأبيات شعر، ويذكر أقاربهم ويعزيهم عنه، ويذكر السلطان داعياً له، وعند ذكر السلطان يقوم الناس ويحطون رؤوسهم إلى سمت الجهة التي بها السلطان، ثم يقعد القاضي، ويأتون بماء الورد فيصب على الناس صباً يبدأ بالقاضي ثم من يليه كذلك إلى أن يعم الناس أجمعين، ثم يؤتى بأواني السكر وهو الجلاب محلولاً بالماء فيسقون الناس منه، ويبدأون بالقاضي ومن يليه، ثم يؤتى بالتنبول، وهم يعظمونه ويكرمون من يأتي لهم به، فإذا أعطى السلطان أحداً منه فهو أعظم من إعطاء الذهب والخلع. وإذا مات الميت لم يأكل أهله التنبول إلا في ذلك اليوم، فيأخذ القاضي، أو من يقوم مقامه، أوراقاً منه فيعطيها لولي الميت فيأكلها وينصرفون حينئذٍ وسيأتي ذكر التنبول إن شاء الله تعالى.

    من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها Fasel10

    رحلات إبن بطوطة
    الجزء الأول
    منتدى توتة وحدوتة - البوابة
    من ذكر جامع دمشق الى فضائل أهلها E110


      الوقت/التاريخ الآن هو السبت 23 نوفمبر 2024 - 6:37