من طرف غذاؤك السبت 12 نوفمبر 2016 - 15:46
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
شرح تشريح القانون لإبن سينا
تأليف : إبن النفيس
المقدمة وتشتمل على خمس مباحث
● [ المقدمة ] ●
وبعد حمد الله والصلاة على أنبيائه ورسله فإن قصدنا الآن إيراد ما تيسر لنا من المباحث على كلام الشيخ الرئيس أبي علي الحسين علي ابن عبد الله بن سينا البخاري رحمه الله، في التشريح من جملة كتاب القانون، وذلك بأن جمعنا ما قاله في الكتاب الأول من كتب القانون إلى ما قاله في الكتاب الثالث من هذه الكتب، وذلك ليكون الكلام في التشريح جميعه منظوماً.
وقد صدنا عن مباشرة التشريح وازع الشريعة، وما في أخلاقنا من الرحمة فلذلك رأينا أن نعتمد في تعرف صور الأعضاء الباطنة على كلام ما تقدمنا من المباشرين لهذا الأمر، خاصةً الفضائل جالينوس إذ كانت كتبه أجود الكتب التي وصلت إلينا في هذا الفن، مع أنه اطلع على كثير من العضلات التي لم يسبق إلى مشاهدتها، فلذلك جعلنا أكثر اعتمادنا في تعرف صور الأعضاء وأوضاعها ونحو ذلك على قوله. إلا في أشياء يسيرة ظنناً أنها من أغاليط النساخ أو إخباره عنها لم يكن من بعد.
وأما منافع كل واحد من الأعضاء، فإنا نعتمد في تعرفها على ما يقتضيه النظر المحقق، والبحث المستقيم، ولا علينا وافق ذلك رأى من تقدمنا أو خالفه.
ثم رأينا أن نبتدئ قبل الكلام في التشريح بتحرير مقدمة تعين على إتقان العلم بهذا الفن.
وهذه المقدمة تشتمل على خمس مباحث.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ البحث الأول ] ●
اختلاف الحيوانات في الأعضاء
إنك قد عرفت مما قلناه في شرحنا للكتاب الأول من كتب القانون، وهو المعروف بالكليات، ماهيات الأعضاء جملةً وتفصيلاً، وجواهرها وقد علمت أن الأعضاء منها ما هي مفردة، وقد تشترك ما هي مؤلفة ليس يشارك جزؤها لكلها في الاسم والحد كاليد والرجل فإن جزء اليد ليس بيد وكذلك جزء الرجل اللهم إلا باشتراك الاسم كاليد، فإنها يقال على ما يدخل فيه الأصابع والساعد والعضد والكتف ويقال على ما يدخل فيه الأصابع والكف فقط إلى الرسغ.
وذلك بالاشتراك اللفظي لا بالاشتراك المعنوي كما سمي جزء العظم وهو القطعة التي تعرض منه عظماً، والقطعة من اللحم لحماً، ومن العصب عصباً ونحو ذلك.
والحيوانات تختلف في الأعضاء اختلافاً كبيراً، وذلك لأن الأعضاء هي آلات للنفس الحيوانية، وهذه الآلات تختلف لا محالة باختلاف هذه النفوس، إذ لكل نفس أعضاء تليق بها. كالأسد فإنه لما كان اغتذاؤه من اللحم، وإنما يتمكن من ذلك بأن يكون قوياً على المصيد، وقهر غيره من الحيوان، ليتمكن من أكله وإنما يمكن ذلك بأن يكون شجاعاً، شهماً، جريئاً، مقداماً، قوياً على قهر غيره من الحيوان.
وإنما يمكن ذلك بأن تكون أعضاؤه شديدة القوة، وإنما يكون ذلك بأن تكون عظامه قوية، مستحكمة، مصمتة، خفية المفاصل، حتى كأنها من عظم واحد. ولا كذلك كثير من الحيوانات، فإن بعضها ضعيف البطش، واهي التركيب كالدود، وكثير من حيوان البحر، وأكثر الحيوانات مشتركة في أن كل واحد منها على عظام، ولحم، وعصب، وأربطة، ونحو ذلك.
واختلاف الحيوانات في الأعضاء قد تكون فيها أنفسها وقد تكون في أحوالها.
أما الاختلاف في العضو البسيط فمثل أن السمك له فلوس، والقنفذ له شوك، والطائر له ريش، والغنم له قرون، والسلحفاة لها صدف، وليس شيء من ذلك للإنسان وإن كان له.
وأما الاختلاف في العضو المركب، فمثل أن الفرس له ذنب، والجمل له سنام، والطائر له جناح، وليس شيء من ذلك للإنسان وإن كان له أجزاء غير هذه كالعصب، والعظم، واللحم، والرباط ونحو ذلك.
وأما اختلاف الحيوانات باختلاف الأعضاء، فذلك بأمور أحدها مقادير الأعضاء، فإن رأس الإنسان إذا قيس إلى سائر بدنه كان عظيماً جداً، ولا كذلك غيره من الحيوانات.
وثانيها : أعداد الأعضاء. فإن أعضاء الإنسان كثيرة جداً بالقياس إلى أعضاء الدود. وللإنسان ثديان فقط، وللكلب ثمانية أثداء. وكذلك للإنسان رجلان فقط ولبعض العناكب سنة أرجل، ولبعضها ثمانية أرجل، ولبعضها عشرة ولبعض الحيوان أرجل كثيرة جداً، كما للحيوان المعروف بأربعة وأربعين.
وثالثها : كيفيات الأعضاء مثل أن عظام رأس الأسد والفيل شديدة الصلابة، وعظام رأس الإنسان رخوة جداً، ولا كذلك غيره. وكذلك لون عين الإنسان يخالف جداً لون عين الهرة.
ورابعها : أوضاع الأعضاء، فإن ثدي الإنسان في صدره، وثدي الفيل قربت من صدره، وثدي الفرس ونحوه قربت من سرته.
وخامسها : أفعال الأعضاء من أن يدي الإنسان يبطش بهما، ويتناول بهما الأشياء. ولا كذلك وأنف الفيل يقوم له مقام اليدين من الإنسان في تناول ما يتناوله.
وسادسها : انفعالات الأعضاء. فإن عين الخفاش تنفعل جداً عن الضوء الشديد والحرباء بالضد من ذلك. وقد خلق الإنسان صناعي المأكل والملبس فاقد السلاح، فكرى الصنائع، وإنما خلق كذلك ليكون كثير الفكر فيتهيأ له لأجل كثرة فكره بكثرة الارتياض أن يتوصل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة مخلوقاته. ولا كذلك غير الإنسان، فلذلك جعل ذلك كله لغير الإنسان بالطبع.
والأعضاء العالية تكون أولاً في الإنسان عظيمة، ثم تعظم أسافله، فتتشابه أجزاؤه وتنحني أعاليه عند الكبر، والأعضاء المتيامنة في جميع الحيوانات شبيهة جداً للمتياسرة.
وأما الأعضاء العالية فتشبه السافلة شبهاً أقل كاليدين ربما في الإنسان للرجلين. وأما الأعضاء الخلفية، والقدامية فالشبه فيها أقل.
والله ولي التوفيق
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ البحث الثاني ] ●
فوائد علم التشريح
انتفاع الطبيب بهذا العلم بعضه في العلم، وبعضه في العمل، وبعضه في الاستدلال.
وأما انتفاعه في العلم والنظر، فذلك لأجل تكميله معرفة بدن الإنسان، ليكون بحثه عن أحواله وعوارضه سهلاً.
وأما انتفاع بالعمل فمن وجوه : أحدها أنه يعرف به مواضع الأعضاء فيتمكن بذلك من وضع الأضمده ونحوها حيث يسهل نفوذ قواها إلى الأعضاء المتضررة.
وثانيها : أنه يعرف به مبادئ شعب الأعضاء ونحوها، ومواضع تلك المبادئ فيتمكن من عرض لها خروج عن ذلك بخلع أو نحوه.
ورابعها: أنه يعرف به أوضاع الأعضاء بعضها من بعض فلا يحدث عند البط ونحوه قطع شريان، أو عصب، ونحو ذلك.
وكذلك لا يقطع ليف بعض العضلات في البط ونحوه. وذلك لأجل تعرفه مذاهب ألياف العضل.
وأما انتفاع الطبيب بهذا الفن في الاستدلال، فذلك قد يكون لأجل سابق النظر، وقد يكون لغير ذلك.
أما الأول : فكما إذا احتاج الطبيب إلى قطع عضو، فإنه إن كان عالماً بالتشريح تمكن حينئذ من معرفة ما يلزم ذلك القطع من الضرر الواقع في أفعال الشخص فينذر بذلك. فلا يكون عليه بعد وقوع ذلك الضرر لائمة.
وأما الثاني : فكما إذ كان يستدل به على أحوال الأمراض.
أما أمراض الأعضاء الظاهرة، فكما يستدل على أن ابتداء الرمد هو من السمة وذلك إذا شاهد الانتفاخ يبتدئ أولاً من الجفن.
وأما أمراض الأعضاء الباطنة، فإن الطبيب ينتفع به في الاستدلال عليها سواء كان ذلك الاستدلال من جواهر الأعضاء أو من أعراضها، أو منهما جميعاً.
أما الاستدلال من جوهر الأعضاء فإما أن يكون مما يبرز من البدن أو لا يكون كذلك.
والثاني : كما يستدل حين الآفة في هضم المعدة على أن الآفة في طبقاتها الخارجة، وأسافلها، وحين هي في الشهوة على أن الآفة في أعلى طبقتها الداخلة، وذلك لأن خارج المعدة وأسافلها لحمى، وهضمها باللحم وأعلى باطنها عصبي، والحس بالعصب.
والأول : إما أن يكون بروز ذلك البارز من مخرج طبيعي أو لا يكون كذلك.
والثاني : كما يستدل بالقشور الخارجة مع القيء على قروح في المعدة أو المريء.
والأول : إما أن يكون ذلك المخرج هو مخرج الثفل كما يستدل بالقطع اللحمية الخارجة في اختلاف الدم على أنها أجزاء من الكبد أو هو مخرج البول، وذلك كما يستدل بالقشور النخالية الخارجة مع وجع المثانة على حرث فيها.
وأما الاستدلال من أعراض الأعضاء، فإما أن يكون بالأعراض التي هي للأعضاء في نفسها، أو التي لها بالقياس إلى غيرها أو بهما معاً.
أما الاستدلال بالأعراض التي هي للأعضاء في أنفسها، فكما يستدل بشكل العضو أو بلونه أو بمقداره. وأما بشكله فكما يستدل على أن الورم الذي يكون تحت الشراسيف اليمنى كبدي، بأنه معترض كرى الشكل أو هلالي وعلى أنه في العضلة التي فوقها بأنه متطاول أو معترض أو مؤرب وأما أن يكون بلون العضو فكما يستدل على أن الرمل الخارج ليس من المثانة بأنه أحمر، وعلى أنه ليس بأحمر، وذلك لأن تولد كل عضو إنما يكون من فضل غذائه، فيكون شبيهاً بلونه، وأما غلظ العضو، فكما يستدل على أن القشرة الخارجة مع البراز من الأمعاء الغلاظ بأنها كبيرة غليظة، وعلى أنها من الأمعاء الدقاق، بأنها صغيرة رقيقة.
وأما الاستدلال بالأعراض التي هي للأعضاء بالقياس إلى غيرها فكما يستدل بموضع العضو أو بوضعه أو اتصاله بغيره، أو بكونه منفصلاً أو بكونه مشاركاً لأجزاء، وليس بمشارك له.
أما الاستدلال بموضع العضو فكما يستدل على أن المغص في الأمعاء الدقاق بأنه في قرب السرة أو فوقها وعلى أنه في الأمعاء الغلاظ بأنه أسفل من السرة.
وأما الاستدلال بوضع العضو، فكما يستدل على أن المحتبس في إيلاوس ليس في المعاء الصائم بأن صفة هذا المعاء وضعه في طول البدن على الأسفل.
وأما الاستدلال باتصال العضو بغيره، فكما يستدل على أن هذا المحتبس ليس في الصائم لأنه يتصل به عروق كثيرة لامتصاص الغذاء ولدفع البراز.
وأما الاستدلال بكون العضو منفذاً، فكما يستدل بكون القضيب منفذا للبول ولما يخرج معه، على أن الخارج منه من الدم لا يلزم أن يكون من القضيب نفسه.
وأما الاستدلال بكون العضو مشاركاً أو ليس مشاركاً فإن الاستدلال بعدم المشاركة فكما يستدل بأن القطع اللحمة الخارجة مع البراز ليست من الكلى لعدم المشاركة بينها وبين الأمعاء، والاستدلال بالمشاركة فهو كما يستدل بحمرة العين وسخونتها على حرارة مزاج الرأس لمشاركة العين للرأس.
وأما الاستدلال بالأعراض التي هي الأعضاء نفسها وبقياسها إلى غيرها. فكما يستدل على أن فعل المعدة هضم الغذاء بتصغير أجزائه جداً بأن المريء يتصل فيها من فوق، والأمعاء والماساريقا من سفل تجويف واسع. ولولا أن تصغر الغذاء فيها لاستحال نفوذه في الماساريقا، ولا يمكن ذلك بالمريء، لأن الغذاء لا يدوم فيه مدة في مثلها يتصغر، ولا بالمعاء وإلا كانت زيادة تجويف المعدة عبثاً ولما كان يتصل بها شيء من الماساريقا وإذا ثبت أنه في المعدة فمتى لم يتم هذا الفعل علمنا أن فيها آفة.
وأما الاستدلال من جواهر الأعضاء، وأعراضها معاً. فكما يستدل على أن الرسوب اللحمي في البول من الكبد بأنه لحمى وحمرته إلى سواد، وعلى أنه من الكلى، بأنه مع لحميته إلى صفرة.
والله ولي التوفيق.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ البحث الثالث ] ●
إثبات منافع الأعضاء
قد منع قوم من الأولين منافع الأعضاء، وقالوا إنها لم تخلق لمنفعة بعينها وأنها هي وغيرها إنما وجدت بالاتفاق، وذلك لأن الفضاء عند هؤلاء فيه أجزاء لحمية، وأجزاء عظمية، وأجزاء أرضية، وأجزاء سماوية وغير ذلك. وإن هذه الأجزاء دائمة الحركة، فإذا اتفق منها أجزاء اجتمعت فصارت مثلاً أرضاً أو سماءً أو فرسا ونحو ذلك. فإن صلح ذلك للبقاء بقي، فإن صلح مع ذلك للنسل نسل، واستمر نوعه بالتواليد وما لم يصلح لذلك فتي وفسد.
ولا امتنع عند هؤلاء في أن يوجد ما نصفه إنسان ونصفه سمكة أو بغل ونحو ذلك، وليس شيء من ذلك مقصوداً بحكمة أو غرض ولعل في ذلك الفضاء عوالم لا نهاية لها، ونباتات، وحيوانات على هيئات غير معهودة عندنا.
والحق أن هذا باطل، وأن الله تعالى، وإن كان لا يفعل لغرض، فأفعاله لا تخلو عن الحكم، ولولا ذلك لكان هذا الوجود عبثاً وهو محال، وتحقيق هذا إلى علم آخر.
والذي ينبغي أن نقوله الآن : أن الخالق تعالى وحده لعنايته بهذا العالم يعطي كل متكون ما هو له أفضل من الجوهر والكم والكيف وغير ذلك. فأي شيء من ذلك علم وجوده لعضو علم كذلك ظن أنها هي الغاية، وإن كان يجوز أن تكون خلقته لذلك لسبب آخر خفي عنا لا لما ظنناه منفعة.
فقولنا مثلاً : إن الرأس خلق مستديراً ليكون بعيداً عن قبول الآفات معناه أن هذا يصلح لأن يكون غاية، لا أنا نجزم أنه إنما خلق مستديراً لذلك فقط.
ولذلك فإنا نذكر للشيء الواحد منافع كثيرة، ويجوز أن تكون المنفعة الخفية هي مجموع تلك المنافع لا واحدة منها. ويجوز أن تكون غير المجموعة وغير كل واحد مما ذكر.
والله أعلم بغيبه
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ البحث الرابع ] ●
مبادئ العلم بمنافع الأعضاء
إنه ليس يكفي في تعرف منافع الأعضاء مشاهدة تلك الأعضاء بل لا بد مع ذلك من نظر واستدلال، وذلك الاستدلال إما أن يكون بأمر عدمي أو بأمر وجودي.
أما الاستدلال بالأمر العدمي، فإما أن يكون عدمه طبيعياً أو لا يكون كذلك. والأول كما يستدل بعدم نبات الشعر في باطن الكف على أن فائدة ذلك أن يكون إحساس الكف قوياً، لأن الشعر لا بد وأن يحول بين الحس والمحسوس فيضعف إدراكه له، وكما يستدل بعدم اللحمي المائي لموضع الأخمص على فائدة ذلك، أن تكون للقدم إحاطة بالموطئ، فيكون المشي على المحدبات متأنياً.
والثاني : كما يستدل على فائدة العرق الآتي من الطحال إلى فم المعدة هي أن السوداء تنصب منه إلى هناك منبهة على شهوة الطعام بأن ذلك الانصباب إذا فقد بطلت الشهوة.
وأما الاستدلال بالأمر الوجودي. فإما أن يكون ذلك الأمر جوهراً أو عرضاً أو مجتمعاً منهما. وكل واحدة من هذه إما أن تكون عضوياً أو لا يكون كذلك.
فهذه ستة أقسام : الأول : أن يكون المستدل به جوهراً عضوياً. وذلك كما يستدل بخلقة الكلى لحمية على أن ذلك ليشتد جذبها للمائية، لأن الجوهر اللحمي أشد سخونة من غيره. والجذب يشتد بالحرارة.
الثاني : أن يكون جوهراً غير عضوي، وذلك كما يستدل بالرطوبات اللزجة التي على السطح الداخل من الأمعاء على ن فائدتها أن يكون جرم الأمعاء قوياً على ملاقاة الثفل.
الثالث : أن يكون عرضاً عضوياً، أي قائماً بعضو وأقسامه تسعة أحدها: كميات الأعضاء، أما الكمية المتصلة، وهي المقدار، فكما يستدل بكبر عظم الفخذ على أن فائدة ذلك أن يكون قوياً على حمل ما فوقه ونقل ما تحته.
وأما المنفصلة : أعني العدد. فكما يستدل بكثرة عدد الأصابع والأنامل وعظام المشط والرسغ، على أن فائدة ذلك أن يكون الاشتمال على المقبوض جيداً.
وثانيها : كيفيات الأعضاء، أما الكيفيات الملموسة، فكما يستدل بشدة حرارة القلب على أن منافعه إحالة الدم إلى الجوهر الروحي، وببرودة الدماغ على أن فائدته تعديل الروح الآتي إليه من القلب حتى يصلح لأن يصدر عنها أفعال الحس والحركة الإرادية.
وأما الألوان : فكما يستدل بلون طبقة العنبية على أن فائدتها جمع الروح الذي في العين وتقويته.
وأما الصلابة واللي، فكما يستدل بشدة صلابة العظم الوتدي على أن فائدته أن يكون حشواً بين الفرج التي للأعضاء ووطأً للبدن.
وأما الأشكال : فكما يستدل باستدارة الرأس على أن فائدة ذلك أن يقل قبوله للآفات، وأن يكون تجويفه أوسع. وتفرطح مؤخرة المعدة، على أن فائدة ذلك تبعيدها عن الصلب لئلا يتضرر بملاقاته.
وثالثها : إضافات الأعضاء كما يستدل بمجاورة الثرب والكبد للمعدة على أنهما نافعان في إسخانها ليكون هضمها أتم.
ورابعها : وضع الأعضاء كما يستدل بميل رأس القلب إلى الجانب الأيسر على أن ذلك ليكون الجانبان متعادلين فن الجانب الأيمن يشتد تسخنه بحرارة الكبد.
وخامسها : كون العضو في مكان ما، كما يستدل بخلقه الحجاب بين آلات الغذاء، وآلات التنفس على أن ذلك ليمنع نفوذ قذارات هضم الغذاء في المعدة إلى القلب ونواحيه. وبخلقة الأضلاع في الصدر على أن ذلك ليكون وقاية للقلب من كل جانب.
وسادسها : كون العضو في زمان، كما يستدل بنبات النواجذ في وسط سن النمو على أن فائدة ذلك الاستظهار في تكثير آلات الغذاء.
وسابعها : كون العضو في محيط يلزمه. كما يستدل بكون الكبد والطحال في غشاء على أن فائدة ذلك إفادتهما حساً بالعرض.
وثامنها : كون العضو مؤثراً. كما يستدل بتصغير الأسنان للمأكولات على أن فائدتها إعانة المعدة على فعلها، وهو هضم الغذاء.
وتاسعها : كون العضو منفعلاً كما يستدل بتأثير الأمعاء عن لذع المرار على أن فائدة ذلك تنبيه القوة الدافعة على دفع الثفل.
الرابع : أن يكون المستدل به عرضاً غير عضوي. كما يستدل بلون الرطوبة الزجاجية على أن فائدتها أن تكون غذاء الجليدية. لدلالة لونها على أنها استحال إلى مشابهة الجليدية بعض الاستحالة.
الخامس : أن يكون المستدل به مركباً من جوهر وعرض، وهو عضو وذلك كما يستدل بالشحم الكثير الذي على القلب أن فائدته ترطيب القلب بالدهنية فلا تجف لقوة حرارته مع دوام حركته.
السادس : أن يكون المستدل به مركباً من جوهر وعرض، وهو غير عضوي، وذلك كما يستدل بالروح المحوى في باطن العينين على أن فائدته تأدية ما يصل إلى العينين من أشباح المرئيات إلى أمام القوة الباصرة.
والله ولي التوفيق
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ البحث الخامس ] ●
هيئة التشريح وآلاته
أما تشريح العظام والمفاصل ونحوهما فيسهل في الميت من أي سبب كان موته. وأسهل ذلك إذا مضى على موته مدة فني فيها ما عليه من اللحم وبقيت العظام متصلة بالأربطة ظاهرة. فإن هذا لا يفتقر فيه إلى عمل كبير حتى يوقف على هيئة عظام، ومفاصله.
وأما تشريح القلب والشرايين، والحجاب والرئة، ونحو ذلك، يتوقف على كيفية حركتها. وهل حركة الشرايين مصاحبة لحركة القلب، أو مخالفة وكذلك حركة الرئة مع حركة الحجاب.
ومعلوم أنه إنما يوقف عليه في تشريح الأحياء، ولكن يعسر ذلك بسبب اضطراب الحي لتألمه.
وأما تشريح العروق الصغار التي في الجلد، وما يقرب منه فيعسر في الأحياء لما قلناه، وكذلك في الموتى الذين ماتوا بمرض ونحوه. وخصوصاً إذا كان من الأمراض يلزمه قلة الدم والرطوبات فتختفي تلك العروق، كما في الإسهال والدق والنزف.
وأسهل تشريح هذه ما يكون في ميت مات بالخنق، لأن الخنق يحرك الدم والروح إلى خارج فتمتلئ هذه العروق وتنتفخ. ويلزم أن يكون ذلك عقيب الموت، لأن الزمان إذا طال جمد ما يكون في هذه العروق من الدم فيقل حجمه، ويلزم ذلك نقصان انتفاخ تلك العروق.
قال جالينوس : إن عادتي أن أخنق الذي أريد تشريحه بالماء كيلا يرتض أو يتفسخ شيء من أجزاء العنق لو خنق بحبل ونحوه.
والله ولي التوفيق
● [ تمت المقدمة وتشتمل على خمس مباحث ] ●
شرح تشريح القانون لإبن سينا
تأليف : إبن النفيس
منتدى حُكماء رُحماء الطبى . البوابة