منتدى غذاؤك دواؤك

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    صيد الخاطر [ 13 ]

    avatar
    غذاؤك
    Admin


    عدد المساهمات : 2100
    تاريخ التسجيل : 12/11/2013

    صيد الخاطر [ 13 ] Empty صيد الخاطر [ 13 ]

    مُساهمة من طرف غذاؤك الثلاثاء 25 يناير 2022 - 20:39

    صيد الخاطر [ 13 ] Eslam_12

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الثقافة الإسلامية
    صيد الخاطر
    صيد الخاطر [ 13 ] 1410
    ● [ فصل ] ●
    أسباب الخطأ

    تأملت في الخلق وإذا هم في حالة عجيبة، يكاد يقطع معها بفساد العقل.
    وذلك أن الإنسان يسمع المواعظ وتذكر له الآخرة فيعلم صدق القائل، فيبكي وينزعج على تفريطه، ويعزم على الاستدراك، ثم يتراخى عمله بمقتضى ما عزم عليه.
    فإذا قيل له: أتشك فيما وعدت به، قال لا والله، فيقال: له فاعمل، فينوي ذلك ثم يتوقف عن العمل.
    وربما مال إلى لذة محرمة، وهو يعلم النهي عنها.
    ومن هذا الجنس تأخر الثلاثة الذين خلفوا ولم يكن لهم عذر وهم يعلمون قبح التأخر. وكذلك كل عاص ومفرط.
    فتأملت السبب مع أن الاعتقاد صحيح والفعل بطيء، فإذا له ثلاثة أسباب.
    أحدها رؤية الهوى العاجل، فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه.
    والثاني التسويف بالتوبة، فلو حضر العقل لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت ولم تحصل التوبة.
    والعجب ممن يجوز سلب روحه قبل مضي ساعة ولا يعمل على الحزم، غير أن الهوى يطيل الأمد، وقد قال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم: صل صلاة مودع وهذا نهاية الدواء لهذا الداء، فإنه من ظن أنه لا يبقى إلى صلاة أخرى جد واجتهد.
    والثالث رجاء الرحمة فيرى العاصي يقول: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب.
    ولو علم أن رحمته ليست رقة إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفوراً ولا آلم طفلاً وعقابه غير مأمون، فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة دراهم.
    فنسأل الله عز وجل أن يهب لنا حزماً يبت المصالح جزماً.
    ● [ فصل ] ●
    الحذر من الآفات
    نظرت فيما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما لبس الخاتم ثم نزعه من يده، ورمى به، وكره أن يرى نفسه مزداناً بهذه الحلية. وقال شغلني نظري إليكم ونظري إليه. وتأملت كذلك في قوله: بينما رجل يتبختر في حلته مرجلاً جمته خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. فرأيت أنه لا ينبغي للمؤمن أن يلبس ثوباً معجباً ولا شيئاً من زينة، لأن ذلك يوجب النظر إلى النفس بعين الإعجاب، والنفس ينبغي أن تكون ذليلة للخالق.
    وقد كان القدماء من أحبار بني إسرائيل يمشون على العصي لئلا يقع منهم بطر في المشي.
    ولبست أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها درعاً لها فأعجبت به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إليك في حالتك هذه.
    ولما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها أعلام قال: ألهتني هذه عن صلاتي. وهذا كله يوجب الإعراض عن الزينة وما يحرك إلى الفخر والزهو والعجب.
    ولهذا حرم الحرير.
    وأقول على أسباب هذا: إن المرقعات التي يظهر فيها المتصوفة بالسوارك والتلميع، ربما أوجبت زهو الملابس، إما لحسنها في ذاتها، أو لعلمه أنها تنبىء عنه بالتصوف والزهد.
    وكذلك الخاتم في اليد، وطول الأكمام والنعام الصرارة.
    ولا أقول: إن هذه الأشياء تحرم، بل ربما جلبت ما يحرم من الزهو.
    فينبغي للعاقل أن يتنبه بما قلت في دفع كل ما يحذر من شره.
    وقد ركب ابن عمر نجيباً فأعجبه مشيه فنزل، وقال يا نافع أخله في البدن.
    ● [ فصل ] ●
    الإقبال على الله
    من أراد اجتماع همه وإصلاح قلبه، فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان، فإنه قد كان يقع الاجتماع على ما ينفع ذكره، فصار الاجتماع على ما يضر.
    وقد جربت على نفسي مراراً أن أحصرها في بيت العزلة، فتجتمع هي ويضاف إلى ذلك النظر في سير السلف فأرى العزلة حمية والنظر في سير القوم دواء واستعمال الدواء مع الحمية عن التخليط نافع.
    فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس ولقائهم تشتت القلب المجتمع، ووقع الذهول عما كنت أراعيه، وانتقش في القلب ما قد رأته العين، وفي الضمير ما تسمعه الأذن، وفي النفس ما تطمع في تحصيله من الدنيا. وإذا جمهور المخالطين أرباب غفلة، والطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم.
    فإذا عدت أطلب القلب لم أجده، وأروم ذاك الحضور فأفقده، فيبقى فؤادي في غمار ذلك اللقاء للناس أياماً حتى يسلو الهوى.
    وما فائدة تعريض البناء للنقض ؟.
    فإن دوام العزلة كالبناء والنظر في سير السلف يرفعه، فإذا وقعت المخالطة انتقض ما بنى في مدة، في لحظة. وصعب التلاقي وضعف القلب.
    ومن له فهم يعرض أمراض القلب وإعراضه عن صاحبه وخروج طائره من قفصه.
    ولا يؤمن على هذا المريض أن يكون مرضه هذا سبب التلف، ولا على هذا الطائر المحصور أن يقع في الشبكة.
    وسبب مرض القلب أنه كان محمياً عن التخليط مغذواً بالعلم وسير السلف فخلط فلم يحتمل مزاجه فوقع المرض.
    فالجد الجد فإنما هي أيام وما نرى من يلقى ولا من يؤخذ منه، ولا من تنفع مجالسته، إلا أن يكون نادراً ما أعرفه:
    ما في الصحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
    فالزم خلوتك، وراع - ما بقيت النفس - وإذا قلقت النفس مشتاقة إلى لقاء الخلق فاعلم أنها بعد كدرة، فرضها ليصير لقاؤهم عندها مكروهاً.
    ولو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت الزحمة، كما أن الذي يخلو بحبيبه لا يؤثر حضور غيره.
    ولو أنها عشقت طريق اليمن لم تلتفت إلى الشام.
    ● [ فصل ] ●
    نور البصيرة
    تفكرت في سبب هداية من يهتدي، وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته، فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق عز وجل لذلك الشخص، كما قيل، إذا أرادك لأمر هيأك له.
    فتارة تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل، فيتلمح الإنسان وجود نفسه، فيعلم أن لها صانعاً، وقد طالبه بحقه وشكر نعمته وخوفه عقاب مخالفته، ولا يكون ذلك بسبب ظاهر.
    ومن هذا ما جرى لأهل الكهف: " إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ " .
    وفي التفسير: أن كل واحد منهم ألفى في قلبه يقظة، فقال: لا بد لهذا الخلق من خالق، فاشتدوا كرب بواطنهم من وقود نار الحذر، فخرجوا إلى الصحراء، فاجتمعوا عن غير موعد.
    فكل واحد يسأل الآخر: ما الذي أخرجك... ؟. فتصادقوا.
    ومن الناس من يجعل الخالق سبحانه وتعالى لذلك السبب الذي هو الفكر والنظر سبباً ظاهراً، إما من موعظة يسمعها أو يراها، فيحرك هذا السبب الظاهر فكرة القلب الباطنة، ثم ينقسم المتيقظون فمنهم من يغلبه هواه ويقتضيه طبعه ما يشتهي مما قد اعتاده، فيعود القهقرى ولا ينفعه ما حصل له من الانتباه، فانتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه.
    ومنهم من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين: المقل الأمر بالتقوى والهوى المتقاضي بالشهوات.
    فمنهم من يغلب بعد المجاهدات الطويلة فيعود إلى الشر ويختم له به.
    ومنهم من يغلب تارة ويغلب أخرى فجراحاته لا في مقتل.
    ومنهم من يقهر عدوه فيسجنه في حبس، فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوساوس.
    ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا.
    فهمهم صعود وترق.
    كلما عبروا مقاماً إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا.
    ومنهم من يرقى عن الاحتياج إلى مجاهدة، إما لخسة ما يدعو إليه الطبع عنده ولا وقع له.
    وإما لشرف مطلوبه فلا يلتفت إلى عائق عنه.
    واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام، وإنما يقطع بالقلوب.
    والشهوات العاجلة قطاع الطريق والسبيل كالليل المدلهم.
    غير أن عين الموفق بصر فرس لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.
    والصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر من لم يخلص.
    وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
    ● [ فصل ] ●
    الإعجاب بالفاني
    عجبت لمن يعجب بصورته ويختال في مشيته وينسى مبدأ أمره.
    إنما أوله لقمة ضمت إليها جرعة ماء فإن شئت فقل كسيرة خبز معها تمرات وقطعة من لحم ومذقة من لبن وجرعة من ماء ونحو ذلك طبخته الكبد فأخرجت منه قطرات مني، فاستقر في الأنثيين فحركتها الشهوة، فصبت في بطن الأم مدة حتى تكاملت صورتها فخرجت طفلاً تتقلب في خرق البول.
    وأما آخره فإنه يلقى في التراب فيأكله الدود ويصير رفاتاً تسفيه السوافي.
    وكم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر ؟ ويقلب في أحوال إلى أن يعود فيجمع.
    هذا خبر البدن. إنما الروح التي عليها العمل، فإن تجوهرت بالأدب وتقومت بالعلم، وعرفت الصانع، وقامت بحقه فما يضرها نقض المركب.
    وإن هي بقيت على صفتها من الجهالة شابهت الطين بل صارت إلى أخس حالة منه.
    ● [ فصل ] ●
    القصد في المعيشة
    هيهات أن يجتمع الهم مع التلبيس بأمور الدنيا خصوصاً بالشاب الفقير الذي قد ألف الفقر.
    فإنه إذا تزوج وليس له شيء من الدنيا اهتم بالكسب أو بالطلب من الناس فتشتت همته وجاءه الأولاد فزاد الأمر عليه.
    ولا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام.
    ومن يفكر فهمته ما يأكل وما يأكل أهله، وما ترضى به الزوجة من النفقة والكسوة، وليس له ذلك؛ فأي قلب يحضر له ؟ وأي هم يجتمع ؟ هيهات.
    والله لا يجتمع الهم والعين تنظر إلى الناس، والسمع يسمع حديثهم، واللسان يخاطبهم، والقلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه.
    فإن قال قائل: فكيف أصنع ؟ قلت: إن وجدت ما يكفيك من الدنيا، أو معيشة ما تكفيك فاقنع بها، وانفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت، وإن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسر، وتصبر أنت على صورتها وفقرها، ولا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته.
    فإن رزقت امرأة صالحة جمعت همك فذاك، وإن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة.
    وإياك والمستحسنات فإن صاحبهن إذا سلم كعابد صنم، وإذا حصل بيدك شيء فانفق بعضه فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك.
    واحذر كل الحذر من هذا الزمان وأهله فما بقي مواس ولا مؤثر، ولا من يهتم لسد خلة، ولا من لو سئل أعطى إلا أن يعطي نذراً بتضجر.
    ومنة يستعبده بها المعطي بقية العمر، ويستثقله كل ما رآه أو يستدعي بها خدمته له والتردد إليه.
    وإنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوماً على المنبر علي ألف دينار، وقد ضاق صدري.
    فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار، وقال اقض دينك.
    فلما عاد وصعد المنبر قال نشكر الله لأبي عمرو فإنه أراح قلبي وقضى ديني.
    فقام أبو عمرو فقال: أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي وقد شق عليها ما فعلت فإن رأيت أن تتقدم برده فافعل.
    فلما كان في الليل عاد إليه، وقال: لماذا شهرتني بين الناس ؟.
    فأنا ما فعلت ذلك لأجل الخلق فخذه ولا تذكرني:
    ماتوا وغيب في التراب شخوصهم ... والنشر مسك والعظام رميم
    فالبعد البعد عن من همته الدنيا، فإن زادهم اليوم إلى أن يحصل أقرب منه إلى أن يؤثر.
    ولا تكاد ترى إلا عدواً في الباطن صديقاً في الظاهر شامتاً على الضر حسوداً على النعمة.
    فاشتر العزلة بما بيعت فإن من له قلب إذا مشى في الأسواق وعاد إلى منزله تغير قلبه.
    فكيف إن عرقله بالميل إلى أسباب الدنيا، واجتهد في جمع الهم بالبعد عن الخلق ليخلو القلب بالتفكر في المآب وتتلمح عين البصيرة خيم الرحيل ؟.
    ● [ فصل ] ●
    الوحدة خير من جليس السوء
    كان المريد في بداية الزمان إذا أظلم قلبه أو مرض لبه قصد زيارة بعض الصالحين فانجلى عن نفسه ما أظلم منها.
    أما اليوم فمتى حصلت ذرة من الصدق لمريد فردته في بيت عزلة، ووجد نسيماً من روح العافية، ونوراً في باطن قلبه، وكاد همه يجتمع وشتاته ينتظم، فخرج فلقي من يومأ إليه بعلم أو زهد رأى عنده البطالين يجري معهم في مسلك الهذيان الذي لا ينفع.
    ورأى صورته منمس، وأهون ما عليه تضييع الأوقات في الحديث الفارغ. فما يرجع المريد عن ذلك الوطن إلا وقد اكتسب ظلمة في القلب وشتاتاً في العزم، وغفلة عن ذكر الآخرة، فيعود مريض القلب. يتعب في معالجته أياماً كثيرة حتى يعود إلى ما كان فيه.
    وربما لم يعد لأن المريد فيه ضعف.
    وربما فتن فإنه إذا رأى شيخاً قد جرب وعرف ثم يؤثر البطالة، لم يأمن أن يتبعه الطبع.
    فالأولى للمريد اليوم أن لا يزور إلا المقابر ولا يفاوض إلا الكتب، التي قد حوت محاسن القوم.
    وليستعن بالله تعالى على التوفيق لمراضيه، فإنه إن أراده هيأه لما يرضيه.
    ● [ فصل ] ●
    حقيقة الأولياء
    تأملت الذين يختارون الحق عز وجل لولايته والقرب منه. فقد سمعنا أوصافهم ومن نظنه منهم، ممن رأيناه.
    فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته. فتراه حسن الوجه معتدل القامة سليماً من آفة في بدنه.
    ثم يكون كاملاً في باطنه، سخياً جواداً عاقلاً غير خب ولا خادع ولا حقود ولا حسود ولا فيه عيب من عيوب الباطن.
    فذاك الذي يبيه من صغره فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ ينبو عن الرذائل ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجر همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب، فهو حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراع للأوقات، ساع في طلب الفضائل، خائف من النقائص.
    ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطأ إن هم، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه.
    ثم ينقسم هؤلاء. فمنهم من تفقه على قدم الزهد والتعبد ومنهم من تفقه على العلم واتباع السنة.
    ويندر منهم من يجمع الله له الكل ويرقيه إلى مزاحمة الكاملين.
    وعلامة إثبات الكمال في العلم والعمل، الإقبال بالكلية على معاملة الحق ومحبته واستيعاب الفضائل كلها، وسناء الهمة في نشدان الكمال الممكن.
    فلو تصورت النبوة أن تكتسب لدخلت في كسبه.
    ومراتب هذا الاصطفاء لا يحتملها الوصف، لكونه درة الوجود، التي لا تكاد تنعقد في الصدف إلا في كل ودود.
    نسأل الله عز وجل توفيقنا لمراضيه وقربه ونعوذ به من طرده وإبعاده.
    ● [ فصل ] ●
    أخلاق العامة
    أكثر الخلائق على طبع رديء لا تقومه الرياضة. لا يدرون لماذا خلقوا ولا ما المراد منهم.
    وغاية همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم. ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم.
    يبذلون العرض دون الغرض، ويؤثرون لذة ساعة، وإن اجتلبت زمان مرض.
    يلبسون عند التجارات ثياب محتال، في شعار مختال ويلبسون في المعاملات ويسترون الحال.
    إن كسبوا فشبهة. وإن أكلوا فشهوة. ينامون الليل وإن كانوا نياماً بالنهار. في المعنى، ولا نوم إلا بهذه الصورة.
    فإذا أصبحوا سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير، وتبصبص كلب، وافتراس أسد، وغارة ذئب، وروغان ثعلب.
    ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى لا على عدم التقوى.
    " ذلك مبلغهم من العلم " .
    كيف يفلح من يؤثر ما يراه بعينه على ما يبصره بعقله، وما يدركه ببصره أعز عنده مما يراه ببصيرته.
    تالله لو فتحوا أسماعهم لسمعوا هاتف الرحيل في زمان الإقامة يصيح في عرصات الدنيا: تلمحوا تقويض خيام الأوائل.
    لكن غمرهم سكر الجهالة، فلم يفيقوا إلا بضرب الحد.
    ● [ فصل ] ●
    صدقات الظلمة
    رأيت بعض المتقدمين سئل عن من يكتسب حلالاً وحراماً من السلاطين والأمراء، ثم يبني المساجد والأربطة، هل له فيها ثواب ؟ فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق، وذكر أن له في إنفاق ما لا يملكه نوع حسنة، لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيردها عليهم.
    فقلت: واعجبا ! من المتصدين للفتوى الذين لا يعرفون أصول الشريعة.
    ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولاً، فإن كان سلطاناً فما يخرج من بيت المال قد عرفت وجوه مصارفه، فكيف يمنع مستحقه ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة ورباط.
    وإن كان المنفق من الأمراء ونواب السلاطين، فإنه يجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال، وليس له فيه إلا ما فرض من إيجاب يليق به.
    فإن تصرف في غير ذلك كان متصرفاً فيما ليس له، ولو أذن له ما كان الإذن جائزاً.
    وإن كان قد أقطع ما لا يقاوم عمله كان ما يأخذه فاضلاً من أموال المسلمين لا حق له فيه.
    وعلى من أطلقه في ذلك إثم أيضاً.
    هذا وإذا كان حراماً أو غصباً فكل تصرف فيه حرام، والواجب رده على من أخذ منه أو على ورثتهم.
    فإن لم يعرف طريق الرد كان في بيت مال المسلمين، يصرف في مصالحهم، أو يصرف ف الصدقة، ولم يحظ آخذه بغير الإثم.
    أنبأنا أحمد بن الحسين بن البنا قال: أخبرنا محمد بن علي الزجاجي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأسدي قال: أخبرنا علي بن الحسن قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عون الطائي قال: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا موسى بن سليمان قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اكتسب مالاً من مأثم، فوصل رحماً، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك جميعاً فقذف به في جهنم.
    فأما إذا كان الباني تاجراً مكتسباً للحلال فبنى مسجداً أو وقف وقفاً للمتفقهة، فهذا مما يثاب عليه.
    ويبعد من يكتسب الحلال حتى يفضل عنه هذا المقدار، أو يخرج الزكاة مستقصاة، ثم يطيب قلبه بمثل هذا البناء والنفقة.
    إذ مثل هذا البنيان لا يجوز أن يكون من زكاة.
    وأين سلامة النية وخلوص المقصد.
    ثم إن بناء المدارس يوم مخاطرة. إذ قد انعكف أكثر المتفقهة على علم الجدل، وأعرضوا عن علوم الشريعة، وتركوا التردد على المساجد، واقتنعوا بالمدارس والألقاب.
    وأما بناء الأربطة فليس بشيء أصلاً، لأن جمهور المتصوفة جلوس على بساط الجهل والكسل، ثم يدعي مدعيهم المحبة والقرب، ويكره التشاغل بالعلم، وقد تركوا سيرة سري وعادات الجنيد: واقتنعوا بأداء الفرائض. ورضوا بالمرقعات.
    فلا تحسن إعانتهم على بطالتهم وراحتهم ولا ثواب في ذلك.
    ● [ فصل ] ●
    الإخلاص لله وحده
    عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد يرجو بذلك قربه من قلوبهم، وينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له.
    فإن رضي عمله ورآه خالصاً لفت القلوب إليه، وإن لم يره خالصاً أعرض بها عنه.
    ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك نيته، لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له.
    ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك.
    وليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة. وإن لم يطلعوا عليها.
    فالقلوب تشهد للصالح بالصلاح وإن لم يشاهد منه ذلك.
    فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعاً، لأنه غير مقبول عند الخالق ولا عند الخلق، لأن قلوبهم قد ألفتت عنه، فقد ضاع العمل، وذهب العمر.
    ولقد أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال. أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا حسن بن موسى قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج للناس عمله كائناً ما كان..
    فليتق الله العبد وليقصد من ينفعه قصده، ولا يتشاغل بمدح من عن قليل يبتلى هو ... وهم.
    ● [ فصل ] ●
    فقهاء الفتنة
    قدم علينا بعض فقهاء من بلاد الأعاجم، وكان قاضياً ببلده فرأيت على دابته الذهب ومعه أتوار الفضة وأشياء كثيرة من المحرمات.
    فقلت: أي شيء أفاد هذا العلم ؟ بل والله قد كثرت عليه الحجج.
    وأكبر الأسباب قلة علم هؤلاء بسيرة السلف وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم يجهلون الجملة، ويتشاغلون بعلم الخلاف، ويقصدون التقدم بقشور المعرفة وليس يعنيهم سماع حديث ولا نظر في سير السلف.
    ويخالطون السلاطين فيحتاجون إلى التزي بزيهم، وربما خطر لهم أن هذا قريب، وإن لم يخطر لهم فالهوى غالب بلا صاد.
    وربما خطر لهم أن يقولوا: هذا يحتمل ويغفر في جانب تشاغلنا بالعلم. ثم يرون العلماء يكرمونهم لنيل شيء من دنياهم، ولا ينكرون عليهم.
    ولقد رأيت من الذين ينتسبون إلى العلم من يستصحب المردان، ويشتري المماليك، وما كان يفعل هذا إلا من قد يئس من الآخرة.
    ورأيت من قد بلغ الثمانين من العلماء، وهو على هذه الحالة.
    فالله الله يا من يريد حفظ دينه ويوقن بالآخرة، إياك والتأويلات الفاسدة، والأهواء الغالبة، فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها جرك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج لموضع إلف الهوى.
    فإقبل نصحي، واقنع بالكسرة، وابعد عن أرباب الدنيا، فإذا ضج الهوى فدعه لهذا.
    وربما قال لك: فالأمر الفلاني قريب، فلا تفعل، فإنه لو كان قريباً يدعو إلى غيره ويصعب التلافي.
    فالصبر الصبر على شظف العيش والبعد عن أرباب الهوى، فما يتم دين إلا بذلك.
    ومتى وقع الترخص حمل إلى غيره، كالشاطىء إلى اللجة. وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، ووجه أصبح من وجه، وإنما هي أيام يسيرة.
    ● [ فصل ] ●
    التسليم للحكمة أولى من البحث في الذات
    من تفكر في عظمة الله عز وجل، طاش عقله لأنه يحتاج أن يثبت موجوداً لا أول لوجوده.
    وهذا شيء لا يعرفه الحس، وإنما يقر به العقل ضرورة.
    وهو متحير بعد هذا الإقرار، ثم يرى من أفعاله ما يدل على وجوده، ثم تجري في أقداره أمور لولا ثبوت الدليل على وجوده لأوجبت الجحد.
    فإنه يفرق البحر لبني إسرائيل، وذلك شيء لا يقدر عليه سوى الخالق، ويصير العصا حية ثم يعيدها عصا تلقف ما صنعوا ولا يزيد فيها شيء.
    فهل بعد هذا بيان ؟.
    فإذا آمنت السحرة تركهم مع فرعون يصلبهم ولا يمنع والأنبياء يبتلون بالجوع والقتل، وزكريا ينشر، ويحيى تقتله زانية، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول كل عام، من يؤويني ؟ من ينصرني ؟.
    فيكاد الجاهل بوجود الخالق يقول: لو كان موجوداً لنصر أولياءه.
    فينبغي للعاقل الذي قد ثبت عنده وجود بالأدلة الظاهرة الجلية أن لا يمكن عقله من الاعتراض عليه في أفعاله، ولا يطلب لها علة.
    إذ قد ثبت أنه مالك وحكيم، فإذا خفي علينا وجه الحكمة في فعله نسبنا ذلك العجز إلى مفهومنا.
    وكيف لا وقد عجز موسى عليه السلام أن يعرف حكمة خرق السفينة وقتل الغلام، فلما بان له حكمة ذلك الفساد في الظاهر أقر.
    فلو قد بانت الحكمة في أفعال الخالق ما جحد العقل جحد موسى يوم الخضر.
    فمتى رأيت العقل يقول لم فأخرسه بأن تقول له: يا عاجز أنت لا تعرف حقيقة نفسك فما لك والاعتراض على المالك.
    وربما قال العقل: أي فائدة في الابتلاء وهو قادر أن يثيب ولا بلاء.
    وأي غرض في تعذيب أهل النار وليس ثم تشف.
    فقل له: حكمته فوق مرتبتك، فسلم لما لا تعلم، فإن أول من اعترض بعقله إبليس، رأى فضل النار على الطين فأعرض عن السجود.
    وقد رأيتنا خلقاً كثيراً وسمعنا عنهم أنهم يقدحون في الحكمة لأنهم يحكمون العقول على مقتضاها، وينسون أن حكمة الخالق وراء العقول.
    فإياك أن تفسح لعقلك في تعليل أو أن تطلب له جواب اعتراض، وقل له سلم تسلم، فإنك لا تدري غور البحر إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك.
    هذا أصل عظيم، متى فات الآدمي أخرجه الاعتراض إلى الكفر.
    ● [ فصل ] ●
    الاعتبار بالنفس
    العجب ممن يقول: اخرج إلى المقابر فاعتبر بأهل البلى.
    ولو فطن علم أنه مقبرة يغنيه الاعتبار بما فيها عن غيرها.
    خصوصاً من قد أوغل في السن، فإن شهوته ضعفت، وقواه قلت، والحواس كلت والنشاط فتر، والشعر أبيض.
    فليعتبر بما فقد، وليستغن عن ذكر من فقد، فقد استغنى بما عنده عن التطلع إلى غيره..
    ● [ فصل ] ●
    يقظة العاقل
    متى تكامل العقل فقدت لذة الدنيا فتضاءل الجسم وقوي السقم واشتد الحزن.
    لأن العقل كلما تلمح العواقب أعرض عن الدنيا، والتفت إلى ما تلمح ولا لذة عنده بشيء من العاجل.
    وإنما يلتذ أهل الغفلة عن الآخرة، ولا غفلة لكامل العقل.
    ولهذا لا يقدر على مخالطة الخلق، لأنهم كأنهم من غير جنسه، كما قال الشاعر:
    ما في الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خلٌ نجاريه
    ● [ فصل ] ●
    حقائق البعث
    ادعى الطبائعيون أن مادة الموجودات الماء والتراب والنار والهواء، فإذا كان في القيامة أذهب الأصول، ثم أعاد الله الحيوان ليعلم أنها كانت بالقدرة لا عن تأثير الكليات.
    أقول: من قدح في البعث فقد بالغ في القدح في الحكمة.
    ومن قال: الروح عرض، فقد جحد البعث، لأن العرض لا يبقى والأجساد تصير تراباً، فإن وجد شيء فهو ابتداء خلق.
    كلا والله بل يعيد النفس بعينها روحاً وجسداً بدليل إعادة مذكوراتها: " قال قائلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ " .
    وعزته، إن لطفه في البداية لدليل على النهاية.
    حنن الوالدين، وأجرى اللبن في الثدي، وأنشأ الأطعمة، وأطلع العقل على العواقب.
    أفيحسن أن يقال بعد هذا التدبير، إنه يهمل العالم بعد الموت فلا يبعث أحداً !.
    أترى من أحب أن يعرف فأنشأ الخلق وقال: كنت كنزاً لا أعرف فأحببت أن أعرف: يؤثر أن يعدمهم فيجهل قدره.
    سبحان من أعمى أكثر القلوب عن معرفته.
    ● [ فصل ] ●
    من دلائل الوجود الأعلى
    سبحان من ظهر لخلقه حتى لم يبقى خفاء ثم خفي حتى كأنه لا ظهور.
    أي ظهور أجلى من هذه المصنوعات التي تنطق كلها بأن لي صانعاً صنعني ورتبني على قانون الحكمة.
    خصوصاً هذا الآدمي الذي أنشأه من قطرة، وبناه على أعجب فطرة، ورزقه الفهم والذهن واليقظة والعلم، وبسط له المهاد، وأجرى له الماء والريح، وأنبت له الزرع ورفع له من فوقه السماء فأوقد له مصباح الشمس بالنهار، وجاء بالظلمة ليسكن، إلى غير ذلك، مما لا يخفى.
    وكله ينطق بصوت فصيح يدل على خالقه.
    وقد تجلى الخالق سبحانه بهذه الأفعال فلا خفاء.
    ثم بعث الرسل فقراء من الدنيا ضعاف الأبدان، فقهر بهم الجبابرة، وأظهر على أيديهم من المعجزات ما لا يدخل تحت مقدور بشر.
    وكل ذلك ينطق بالحق وقد تجلى سبحانه بذلك لعباده.
    ثم يأتي موسى عليه السلام إلى البحر فينفرق فلا يبقى شك في أن الخلق فعل هذا.
    ويكلم عيسى عليه السلام الميت فيقوم.
    ويبعث طيراً أبابيل تحفظ بيته فيهلك قاصديه.
    وهذا أمر يطول ذكره، كله يدل على تجلي الخالق سبحانه بغير خفاء.
    فإذا ثبت عند العقلاء ذلك من غير ارتياب ولا شك، ثم جاءت أشياء كأنها تستر الظاهر مثل ما سبق من تسليط الأعداء على الأولياء.
    إذا ثبت التجلي بأدلة لا تحتمل التأويل، علمت أن لهذا الخفاء سراً لا نعلمه يفترض على العقل فيه التسليم للحكيم.
    فمن سلم سلم، ومن اعترض هلك.
    ● [ فصل ] ●
    التدين الفاسد
    قد يدعي أهل كل مذهب الاجتهاد في طلب الصواب وأكثرهم لا يقصد إلا الحق فترى الراهب يتعبد ويتجوع، واليهودي يذل ويؤدي الجزية.
    وصاحب كل مذهب يبالغ فيه ويحتمل الضيم والأذى طلباً للهدى وتحصيل الأجر - في اعتقاده - ومع هذا فيقطع العقل بضلال الأكثرين.
    وهذا قد يشكل. وإنما كشفه أنه ينبغي أن يطلب الهدى بأسبابه، ويستعمل الاجتهدا بالإبانة.
    فأما من فاتته الأسباب أو فقد بعض الآلات فلا يقال له مجتهد.
    فاليهود والنصارى بين عالم قد عرف صدق نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه يجحد إبقاء لرئاسته فهذا معاند، وبين مقلد لا ينظر بعقله فهذا مهمل، فهو يتعبد مع إهمال الأصل، وذاك لا ينفع، وبين ناظر منهم لا ينظر حق النظر، فيقول: في التوراة أن ديننا لا ينسخ. ونسخ الشرائع لاختلاف الأزمنة حق، ولكنه يقول النسخ بداء ولا ينظر في الفرق بينهما، فينبغي أن ينظر حق النظر.
    ومن هذا الجنس تعبد الخوارج مع اقتناعهم بعلمهم القاصر، وهو قولهم: لا حكم إلا لله ولم يفهموا أن التحكيم من حكم الله فجعلوا قتال علي رضي الله عنه وقتله مبنياً على ظنهم الفاسد.
    ولما نهب مسلم بن عقبة المدينة وقتل الخلق قال: إن دخلت النار بعد هذا إنني لشقي. فظن بجهله أنهم لما خالفوا بيعة يزيد يجوز استباحتهم وقتلهم.
    فالويل لعامي قليل العلم لا يتهم نفسه في واقعة ولا يذاكر من هو أعلم منه، بل يقطع بظنه ويقدم.
    وهذا أصل ينبغي تأمله، فقد هلك في إهماله خلق لا تحصى. وقد رأينا خلقاً من العوام إذا وقع لهم واقعة لم يقبلوا فتوى: " وجوهٌ يومئذٍ خاشعة. عاملةٌ ناصبة. تصلى ناراً حامية " .
    ● [ فصل ] ●
    قوام الأنفس
    للنفس ذخائر في البدن منها الدم والمني وأشياء تتقوى بها.
    فإذا فقدت الذخائر ولم يبق منها شيء ذهبت.
    ومن ذخائرها التقوي بالمال والجاه وما يوجب الفرح.
    فهذا فقدت ذلك وكانت عزيزة ذات أنفة أحرجت.
    وقد يهجم عليها الخوف فلا تجد ذخيرة من الرجاء يقاومه فتذهب.
    ويغلب عليها الفرح فلا تجد من الحزن ما يقاومه فتذهب.
    فاجتهد في حفظ ذخائرها وخصوصاً الشيخ، فإنه ينبغي له أن لا يفرح بإخراج الدم، ولا بإخراج المني وإن وجد شبقاً، إلا أن يكون الشب زائداً في الحد فيخرج المؤذي في كل حين.
    وعلامة أن يكون مؤذياً وجود الراحة عند خروجه، فمتى وجد ضعفاً فقد آذى خروجه.
    وليحفظ ذو الأنفة على نفسه حشمته، بأن لا يقف في موقف يعاب به، فإنه يتمتع بذخيرة العز والأنفة ويضاد النفس وجود غير ذلك.
    وكذلك ينبغي أن يستعد لآخر عمره بالمال مخافة أن يحتاج فيذل أو يسعى، وقد كلت الآلة.
    ولأن يخلف لعدوه أولى من أن يحتاج إلى صديقه.
    ولا يلتفت إلى من يذم المال، فإنهم الحمقى الجهال الذين اتكلوا على خبز الراحة، فاستطابوا الكسل والدعة، ولم يأنفوا من تناول الصدقة ولا من التعرض للسؤال.
    وقد كان لكل نبي معاش ولجميع الصحابة. وخلفوا أموالاً كثيرة فافهم هذا الأصل، ولا تلتفت إلى كلام الجهال.
    ● [ فصل ] ●
    رياء الزهاد
    رأيت في زهاد زماننا من الكبر وحفظ الناموس ورتبة الجاه في قلوب العامة ما كدت أقطع به أنهم أهل رياء ونفاق.
    فترى أحدهم يلبس الثوب الذي يرى بعين الزهد، ويأكل أطايب الطعام، ويتكبر على أبناء الجنس ويصادق الأغنياء، ويباعد الفقراء، ويحب الخطاب بمولانا، ويمشي بحاجبه، ويضيع الزمان في الهذيان، ويتقوت بخدمة الناس له والتسليم عليه.
    ولو أنه لبس ثوباً يخلطه بالفقهاء لذهب الجاه ولم يبق له متعلق. ولو أن أفعاله ناسبت ثيابه لهان الأمر، لكنهم بهرجوا على من لا يخفى أمرهم عليه من الخلق، فكيف الخالق سبحانه وتعالى ؟.
    ● [ فصل ] ●
    تدبير العيش دين
    كثيراً ما أعيد هذا المعنى الذي أنا ذاكره في هذا الكتاب بعبارات شتى.
    ينبغي للمؤمن أن يتشاغل بمعاشه ويرفق في نفقته. فإنه قد كان للعلماء شيء من بيت المال ورفق من الإخوان، ومعونة من العوام. فانقطع الكل، وبقي المتشاغل بالعلم أو التعبد مسكيناً، خصوصاً ذا العائلة.
    وما رأينا مثل هذا الزمان القبيح، فما بقي من يومأ إليه بمعونة ولا باستقراض فيحتاج الإنسان المؤمن أن يدخل في مداخل لا تليق به، وأن يتعرض بما لا يصلح.
    فينبغي تقليل العائلة وتقويت القوت وترقيع الخلق.
    وإن أمكن معاش فهو أولى من التشاغل بالتعبد والتعلم لفضول العلم، وإلا ضاع الدين في مداخل لا تصلح، أو التعرض لبذل نذل.
    ● [ فصل ] ●
    الاحتراز واجب
    ينبغي للعاقل أن يحترز غاية ما يمكنه، فإذا جرى القدر مع احترازه لم يلم.
    والاحتراز ينبغي من كل شيء يكن وقوعه، وأخذ العدة لذلك واجب، وهذا يكون في كل حال، فقد قص رجل ظفره فجار عليه فخبثت يداه فمات.
    ومر شيخنا أحمد الحربي وهو راكب بمكان ضيق فتطأطأ على السرج فانعصر فؤاده فمرض فمات.
    وكان يحيى بن نزار شيخاً يحضر مجلس قد طرق عليه ثقل الأذن فاستدعى طرقياً فمص أذنه فجرى شيء من مخه فمات.
    وانظر إلى احتراز رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر على حائط مائل فأسرع.
    وينبغي أن يحترز بالكسب في زمن شبابه ادخاراً لزمن شيبه.
    ولا ينبغي أن يثق بمعامل إلا بوثيقة. وليبادر بالوصية مخافة أن يطرقه الموت. ويحترز من صديقه فضلاً عن عدوه.
    ولا يثق بمودة من قد آذاه هو، فإن الحقد في القلوب قلما يزول.
    وليحترز من زوجته، فربما أطلعها على سره ثم طلقها فيتأذى بما تفعل به.
    وقد كان ابن أفلح الشاعر يكاتب رئيساً في زمن المسترشد فعلم بذلك بوابه، واتفق أنه صرف بوابه فنم عليه ونقضت داره.
    فهذه المذكرات أمثلة تبنه على ما لم يذكر.
    وأهم الكل أن يحترز بأخذ العدة وتحقيق التوبة قبل أن يهجم ما لا يؤمن هجومه. وليحذر من لص الكسل، فإنه محتال على سرقة الزمان.
    ● [ فصل ] ●
    فضل العلم والنظر
    تأملت خصومات الملوك، وحرص التجار، ونفاق المتزهدين، فوجدت جمهور ذلك على لذات الحس.
    وإذا تفكر العاقل في ذلك علم أن أمر الحسيات قريب يندفع بأقل شيء، وأن الغاية منه لا يمكن نيلها.
    وإن بالغ عاد بالأذى على نفسه فناله من الضر أضعاف ما ناله من اللذة، كمن يأكل كثيراً أو ينكح كثيراً.
    فالسعيد من اهتم لحفظ دينه، وأخذ من ذلك بمقدار الحاجة.
    واعجباً، هذا الملبوس إذا كان وسطاً خدم وإن كان مرتفعاً خدم.
    فإن نظر اللابس إليه معجباً به فإن الله لا ينظر إليه حينئذ.
    وفي الصحيح: بينما رجل يتبختر في بردته خسف به.
    والمشروب إن كان حراماً فعقابه أضعاف لذته. وهتكة العرض بين الناس عقاب آخر.
    وإن كان مباحاً فالشره فيه يؤذي البدن.
    وأما المنكوح فمداراة المستحسن يؤذي فوق كل أذى.
    ومقاساة المستقبح أشد أذى فعليك بالتوسط.
    وتفكر في أحوال السلاطين كيف قتلوا ظلماً، وكم ارتكبوا حراماً ؟ وما نالوا إلا يسيراً من لذات الحس.
    فانقشع غيم العمر عن حسرات الفضائل الفائتة وحصول العقاب.
    فليس في الدنيا أطيب عيشاً من منفرد عن العالم بالعلم. فهو أنيسه وجليسه، قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة، لا عن تكلف ولا تضييع دين، وارتدى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها. والتحف بالقناعة باليسير، إذ لم يقدر على الكثير. فوجدته يسلم دينه ودنياه.
    واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل، ويفرجه في البساتين، فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة.
    ولكن لا يصلح هذا إلا للعالم، فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط.
    ● [ فصل ] ●
    الفقه قبل الكتابة
    تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود، وهو حرصهم على الكتابة، خصوصاً المحدثين فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا ويفهموا، فيذهب العمر وقد عروا عن العلم إلا اليسير.
    فمن وفق جعل معظم الزمان مصروفاً في الإعادة والحفظ. وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ فيحصل له المراد.
    والموفق من طلب المهم، فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل، وجمهور العلوم الفقه. وفي الناس من حصل له العلم وغفل عن العمل بمقتضاه وكأنه ما حصل شيئاً، نعوذ بالله من الخذلان.
    ● [ فصل ] ●
    التحكم في النفس
    ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم.
    ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة لأن الإنسان بالتثبت يفتكر فتعرض على نفسه الأحوال وكأنه شاور.
    وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.
    وأشد الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة.
    خصوصاً فيما يوجبه الغضب فإنه ينزقه طلب الهلاك أو استتبع الندم العظيم.
    وكم من غضب فقتل وضرب ثم لما سكن غضبه بقي طول دهره في الحزن والبكاء والندم.
    والغالب في القاتل أنه يقتل فتفوته الدنيا والآخرة. فكذلك من عرضت له شهوة فاستعجل لديها ونسي عاقبتها.
    فكم من ندم يتجرعه في باقي عمره. وعتاب يستقبله من بعد موته وعقاب لا يؤمن وقوعه.
    كل ذلك للذة لحظة كانت كبرق.
    فالله الله، التثبت التثبت في كل الأمور والنظر في عواقبها.
    خصوصاً الغضب المثير للخصومة وتعجيل الطلاق.
    ● [ فصل ] ●
    حدود العقل
    سألني سائل، قد قال بعض الحكماء: من لم يحترز بعقله، هلك بعقله فما معنى هذا، فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى، ثم اتضح.
    وذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل فزع إلى الحس فوقع التشبيه.
    فالاحتراز من العقل بالعقل هو أن ينظر فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسماً ولا شبهاً لشيء.
    ● [ فصل ] ●
    التوسل بالله إلى الله
    بلغني عن بعض الكرماء أن رجلاً سأله فقال: أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا وكذا فقال: مرحباً بمن يتوسل إلينا بنا، ثم قضى حاجته.
    فأخذت من ذلك إشارة فناجيت بها فقلت: أنت الذي هديته من زمن الطفولة وحفظته من الضلال، وعصمته عن كثير من الذنوب، وألهمته طلب العلم لا بفهم لشرف العلم، لموضع الصغر، ولا بحب والده - لموت الوالد - ورزقته فهماً لتفقهه وتصنيفه، وهيأت له أسباب جمعه، وقمت برزقه من غير تعب منه، ولا ذل للخلق بالسؤال وحاميت عنه الأعداء، فلم يقصده جبار، وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم التي لا تكاد تجتمع في شخص، وأضفت إليها تعلق القلب بمعرفتك ومحبتك وحسن العبارة ولطفها في الدلالة عليك ووضعت له في القلوب القبول حتى أن الخلق يقبلون عليه ويقبلون ما يقوله، ولا يشكون فيه، ويشتاقون إلى كلامه، ولا يدركهم الملل منه، وصنته بالعزلة عن مخالطة من لا يصلح، وآنسته في خلوته بالعلم تارة وبمناجاتك أخرى، وإن ذهبت أعد لم أقدر على إحصاء عشير العشير " وإن تَعُدُّوا نعمة اللّه لا تحصوها " .
    فيا محسناً إلي قبل أن أطلب لا تخيب أملي فيك وأنا أطلب.
    فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.
    ● [ فصل ] ●
    عبيد المال
    سبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض، والمتوسط منهم يندر.
    منهم من يغضب فيقتل ويضرب.
    ومنهم من هو أبله بقوة الحلم لا يؤثر عنده السب.
    ومنهم شره يتناول كل ما يشتهي.
    ومنهم متزهد يتجفف فيمنع النفس حقها.
    وكذلك سائر الأشياء المحمود منها المتوسط.
    فالمنفق كل ما يجد مبذر، والبخيل يخبىء المال ويمنع نفسه حظها.
    ومعلوم أن المال لا يراد لنفسه بل للمصالح، فإذا بذر الإنسان فيه احتاج إلى بذل وجهه ودينه ومنة البخلاء عليه، وهذا لا يصلح.
    ولأن يخلف الإنسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه.
    وفي الناس من يبخل، ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلاء بهم إلى عشق عين المال.
    فربما مات أحدهم هزالاً وهو لا ينفقه، فيأخذه الغير ويندم المخلف.
    ولقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد، ذكرته لتعتبر به.
    فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر عن شيخه عبد المحسن الصوري، قال: كان بصور تاجر في غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين وجوزة، فيدخل إلى غرفته وقت المغرب فيضرم النار في الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزع ثوبه.
    وفي زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين ويأكلهما.
    فبقي على هذا مدة فمات، فأخذ منه ملك صور ثلاثين ألفاً.
    ورأيت أن رجلاً من كبار العلماء قد مرض فاستلقى عند بعض أصدقائه ليس له من يخدمه ولا يرفقه وهو يتضرر به، فلما مات وجدوا بين كتبه خمسمائة دينار.
    وحدثني أبو الحسن الراندسي قال: مرض رجل عندنا، فبعث إلي فحضرت فقال: قد ختم القاضي على مالي، فقلت: إن شئت قمت وفتحت الختم وأعطيتك الثلث تفرقه وتعمل به ما تشاء.
    فقال: لا والله ما أريد أن أفرقه، بل أريد مالي يكون عندي، فقلت: ما يعطونك، وأنا آخذ لك الثلث كي تكون حراً فيه.
    فقال: لا أريد، فمات وأخذ ماله.
    قال: وجاء رجل فحدثني بعجيبة، قال: مرضت حماتي فقالت لي: أريد أن تشتري لي خبيصاً، فاشتريت لها، وكانت ملقاة في صفة، ونحن في صفة أخرى.
    فجاءني ولدي الصغير وقال: يا سيدي، إنها تبلع الذهب، فقمت وإذا بها تجعل الدينار في شيء من الخبيص فتبلعه.
    فأمسكت يدها وزجرتها عن هذا.
    فقالت: أنا أخاف أن تتزوج على إبنتي، فقلت: ما أفعل، فقالت: إحلف لي، فحلفت، فأعطتني باقي الذهب، ثم ماتت فدفنتها.
    فلما كان بعد أشهره مات لنا طفل، فحملناه إليها، وأخذت معي خرقة خام، وقلت للحفار: اجمع لي عظام تلك العجوز في الخرقة، فجئت بها إلى البيت، وتركتها في أجانة وصببت عليها الماء وحركتها، فأخرجت ثمانين ديناراً أو نحوها كانت قد ابتلعتها.
    وحكى لي صديق لنا، أن رجلاً مات ودفن في الدار، ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه لبنة مقيرة.
    فسئل أهله عنها فقالوا: هو قير هذه اللبنة وأوصى أن تترك تحت رأسه في قبره وقال: إن اللبن يبلى سريعاً وهذه لموضع القار لا تبلى.
    فأخذوها فوجدوها رزينة، فكسرها فوجدوا فيها تسعمائة دينار فتولاها أصحاب التركات.
    وبلغني أن رجلاً كان يكنس المساجد ويجمع ترابها ثم ضربه لبناً فقيل له هذا لأي شيء ؟ فقال: هذا تراب مبارك، وأريد أن يجعلوه على لحدي، فلما مات جعل على لحده، ففضل منه لبنات، فرموها في البيت، فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير.
    فمضوا وكشفوا اللبن عن لحده وكله مملوء دنانير.
    ولقد مات بعض أصدقائنا وكنت أعلم له مالاً كثيراً، وطال مرضه فما أطلع أهله على شيء ولا أكاد أشك أنه من شحه وحرصه على الحياة ورجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه خوفاً أن يؤخذ فيحيا هو وقد أخذ المال.
    وما يكون بع هذا الخزي شيء.
    وحدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن. قال: كان فلان له ولدان ذكران وبنت وله ألف دينار مدفونة.
    فمرض مرضاً شديداً فاحتوشته أهله، فقال لأحد ابنيه لا تبرح من عندي.
    فلما خلا به قال له إن أخاك مشغول باللعب بالطيور، وإن أختك لها زوج تركي ومتى وصل من مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب، وأنت على سيرتي وأخلاقي، ولي في الموضع الفلاني ألف دينار، فإذا أنا مت فخذها وحدك.
    فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال فعوفي الأب، فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه فلا يفعل، فمرض الولد فأشفى فجعل الأب يتضرع إليه ويقول: ويحك خصصتك بالمال دونهم فتموت فيذهب المال، ويحك لا تفعل، فما زال به حتى أخبره بمكانه، فأخذه ثم عوفي الولد ومضت مدة فمرض الأب، فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال وبالغ فلم يخبره ومات وضاع المال.
    فسبحان من أعدم هؤلاء العقول والفهوم، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
    ● [ فصل ] ●
    أسس الصداقة
    كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد بهم، فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب فأخذت أعتب.
    ثم انتبهت لنفسي فقلت: وما ينفع العتاب، فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء.
    فهممت بمقاطعتهم، ثم تفكرت فرأيت الناس بي معارف وأصدقاء في الظاهر وإخوة مباطنين، فقلت لا تصلح مقاطعتهم.
    إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة.
    فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم.
    فقد قال يحيى بن معاذ: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك.
    وجمهور الناس اليوم معارف ويندر فيهم صديق في الظاهر، فأما الأخوة والمصافاة فذاك شيء نسخ فلا يطمع فيه.
    وما رأى الإنسان تصفو له أخوة من النسب ولا ولده ولا زوجته.
    فدع الطمع في الصفا. وخذ عن الكل جانباً، وعاملهم معاملة الغرباء.
    وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره.
    وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك.
    وقد قال الفضيل بن عياض: إذا أردت أن تصادق صديقاً فأغضبه فإن رأيته كما ينبغي فصادقه.
    وهذا اليوم مخاطرة، لأنك إذا أغضبت أحداً صار عدواً في الحال.
    والسبب في نسخ حكم الصفا، أن السلف كان همتهم الآخرة وحدها فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة فكانت ديناً لا دنيا.
    والآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب، فإن رأيت متملقاً في باب الدين فأخبره تقله.

    صيد الخاطر [ 13 ] Fasel10

    كتاب : صيد الخاطر
    المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن الجوزي
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    صيد الخاطر [ 13 ] E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 21:27